كشف


في اليوم العالمي للمرأة: تونسيَّات خضعنَ لـ “محاكمات ساخرة”…كشفنَ بها زيفَ “الحداثة” وقبحَ “التطرف”

20/03/08

في عالمنا العربي من السهل أن تكوني أنثى “جميلة الملامح” بمعايير المجتمع الذي تنتمينَ إليه. لكن من الصعب أن تنالي لقبَ الحرّة! تلك التي لها مطلقُ الحريّة في أن تعيشَ أبسط تفاصيل يومهَا وأعقدها بقرارٍ خالصٍ منها. بدءًا من مظهرهَا الخارجي مرورًا بأفكارها وصولاً إلى قراراتهَا وأفعالهَا، دون الرزح تحت قيد أو شرط، ولا الخضوع لأي سلطة أبوية أو دينية، أو حتى معنوية أخرى مهمَا علا شأنها وارتفعت سيطرتها. فلقد باتَ جليًا اليوم أنه لا تزال الكثير من العقبات أمام المرأة العربية عموما والتونسية خصوصا على الرغم من منحها لقب “النموذج” حتى تحيدَ عن طريق الإذعان لأحكام الأعراف والتقاليد المفروضة عليها من المجتمع منذ عقود.

ولا يخفى على أحد أن الحرية مرتبطة رباطا وثيقا بمفهوم المواطنة. وممارستها بكل ماتحمله من معان تتنزل في إطار الحقوق الفردية والمسؤولية المجتمعية، لكنها قد تحرمٌ منها أيضا وهي في خضم تأدية واجباتها. وتسلب مساحتها الخاصة في التعبير عن نفسها، عندما تسهو للحظة عن التفكير فيمن يرشدها أو يوجهها إلى الطريق التي “عليها أن تسلكها” خلال تأديته!

 ولعلنا اليوم في الثامن من مارس ونحن نحي ذكرى اليوم العالمي للمرأة، نستحضرُ ما حدثَ من حصار فكريّ أسود يوم الجمعة الماضي على الزميلة فدوى شطورو، الصحافية بقسم الأخبار بالقناة الوطنية الأولى. كيف لا وهي التي “أزعجت” عيونَ دافعي الضرائب وشرخت في أذهانهم صورة مذيعات “البوتوكس” و”الفيلر” ، عندما أطلت عليهم بضعة أمتار من تفجير إرهابي بالبحيرة بشعر “منكوش” ووجه خال حتى من مساحيق التجميل.

حملة مسعورة نشبت كالنار في الهشيم بعد قص صورة لها من فيديو تدخلها المباشر واستخدامه كدليل “ادانة” لمواطنة لم ترتكب أي جرم سوى تلبيتها نداء الواجب كصحفية مهنية، ذهبت للميدان لنقل ومواكبرة خبر عاجل دون ان تستأذن خبير تجميلها الخاص!

 أجواء تونسية لن تجد ما يشبهها في مكان آخر، أربعُ نساء تونسيات نُصبت لهنَّ محاكم افتراضية، خلال 72 ساعة الماضية وجلدنَ جلدًا لفظيا مبرحًا على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي وعلى رأسها الفيسيوك. وباتَ هذا الأخير ساحة ضوضاء كبرى لا عدلَ فيها ولا سكينة. تارة لتلقين الدروس فيما يجوز ارتدائه وما لا يجوز. وتارة للتحريم والنهي والتوجيه، وأحيانا كثيرة موغلة في الرداءة بسبب السخرية من هيئتهن الخارجية.

حيث لم تكن فدوى شطورو الضحية الوحيدة لهذه الحملة السوداء، بل أبهرتنا” شريحة واسعة من مجتمعنا بتعليقها على مشهدين متناقضين و رأينا جمهورا واسعا تارة ساخرا وخبيرا تلفزيونيا في الصورة، وتارة أخرى غاضبا متدينا خاشيا على “الإسلام” الذي بات في خطر بسبب فستان!

 الزميلة ملاك البكاري، التي أخذت نصيبها هي الأخرى من سيل الشتائم وأرذل النعوت بعد أن طلت بفستان أسودَ أنيق، يوم الخميس الماضي، على شاشة قناة التاسعة في برنامج “عبدلي شوتايم”.  حيث لم تمض بضع سويعات على حضورها حتى قصفت بوابل من الانتقادات بسبب “مفاتنها المثيرة” ، و وصل البعض إلى تذكيرها بصورة حجابها في السابق.

المذيعة بقناة التاسعة ملاك البكاري

بين زيفَ “الحداثة” وقبحَ “التطرف”

فصام نفسي كبير تجسدت مظاهره بقوة وكشفت قبح الفكر المتطرف وتغلغله في ثنايا المجتمع التونسي بعدما بشرت بعض النخب “العلمانية” بأننا نسيرُ منذ سنوات على درب الحداثة واحترام حرية الآخر، وعدم الخوض في الخيارات الشخصية. وحتى يتأكد هذا التناقض لم تسلم حتى النائبة عن حركة النهضة يامينة الزغلامي من انزعاج البعض وتذمرهم وسخريتهم من لباسها “المحتشم”، الذي ظهرت به في مكتب رئيس مجلس نواب الشعب، راشد الغنوشي، الخميس الماضي رفقة بعض النائبات من أحزاب مختلفة.

وهنا يسقطٌ قناع آخر لكن هذه المرة عن مدَعي الحداثة. أولائك الذين يعتبرون أنفسهم حراسًا وهميين على معبد التقدمية والحرية والساهرين على تكريس مبادئ احترام الاختلاف وتقبل الآخر و”تقديس” الحريات الفردية.

حيث وضعت بطريقة جائرة صورة الزغلامي إلى جانب صورة المحللة السياسية مايا القصوري أثناء مشاركتها في عرض أزياء  “أفر فيفتي…علاش لا”، الذي نظمه المعهد الفرنسي بتونس، وشاركت فيه نساء من مجالات مختلفة تجاوزن سن الخمسين.

عينة من المنشورات الساخرة

نعم هي مقارنة جائرة على الرغم من أن القصوري لم تسلم هي الأخرى من موجة السخرية التي اجتاحت الفيسبوك وموقع أنستغرام. وباتَ ألدَ منتقديها فكرا وأيدولوجيا، يسخرونَ من جرأتها ومن لباسها ومن خيارها في أن تمثل نفسها في عرض أزياء.

القصوري لم تكن في حاجة لاستشارة جمهورها الواسع الذي لطالما اتهمها بالالحاد والكفر والعلمانية، قبل أن تصعد على ركح العرض. وحتى الزغلامي من المفترض أن أفكارها وأيدولوجيتها معروفة لدى الجميع. لذلك كان من المجحف جدا أن تقارن هاتين السيدتين وتبخس حقوقهن في يوم واحد.
لنكن صرحاء مع أنفسنا قبل كل شيء ولنواجه هذه الصور بالحقيقة البشعة والمخيفة للعقليات السائدة بيننا. ولنكف بكل شجاعة عن تسويق صورة مغلوطة في الخارج عن وضع المرأة التونسية .
وهنا تجدر الإشارة إلى أن النموذج المجتمعي التونسي ليس بهذا التماسك الذي يصوّره البعض ويتقن الترويج له. لأن ببساطة اختلافاته وتناقضاته ماضية في طريق التعمق والتفرع. مجتمع شهدَ تشققات عديدة زٌينت بغشاء هش. علاوةً على تسرب فيض من الأفكار متعدة المصادر بين رجعية وانغلاق و انفتاح كاذب على العالم.

فلم يكن هذا المجتمع قادرا على استيعاب كل هذا وبلورته بالشكل الكافي. في حين ساهم النظام السابق قبل الثورة، في غليان مكتوم بعدما سيطر على كل شيء بأذرعته الأمنية والإعلامية وحتى الثقافية. ومع اندلاع الثورة ومنح الجميع حق الوجود والتعبير عنه وتكريس الكينونة التي يريد أن يظهر بها. تشكلت صدمة مجتمعية وحدث انفجار انطلق شظاياه في مختلف الأرجاء ولم تنطفأ بعد. وبذلك سقط بالثورة حجاب عازل وكشف أعوارنا وتشققاتنا وبتنا جميعنا “عرايا”.
النخبة التونسية اليوم في ظل أزمة اقتصادية خانقة من دورها أن تساهم في بناء اركان مجتمع متوازن الأفكار، يتراجع فيه منسوب التطرف بتحقيق عدالة احتماعية تطبق على الجميع. نحن في أمس الحاجة اليوم إلى مفكرين لا مكفرين، وكتاب باحثين، قادرين على صنع ونشر مقارابات مجتمعية جديدة. تقيسُ وتحلل اعتمادا على عينات الحاضر وإطار االماضي وربط كل هذا بكل المتغيرات المحيطة . لأن معركة التحرير المجتمعية المقبلة ليست بالسهولة التي يتم تصويرها . وقد بات جليا، أن الطريق لا تزال طويلة تتجاوز ساحات الجدال الافتراضي العقيم على الحريات الشخصية وسيطرة غوغائيين بعد منحهم أبواق إعلامية ومنصات مجانية للظهور، بل  المعركة أكبر وأشمل لأن تأجيلها بات يهدد أمننا و وجودنا وسلامتنا الجسدية.