كشف حكومي


تونس في معمعة الزجر والقوانين المتضاربة مع الدستور

20/10/08

على مدى سنوات متتالية ظلت منظمات حقوقية تنتظر مآل التحقيق الذي أعلنت عنه وزارة الداخلية عام 2012 عقب أحداث التاسع من شهر أفريل في شارع الحبيب بورقيبة، أين تسابقت عصي الشرطة وعبوات الغاز المسيل للدموع للانقضاض على المتظاهرين في الشارع الرمز، و الأنهج المتفرعة عنه.

كانت التطلعات كبيرة بأن يمثل التحقيق لبنة أولى بعد الثورة لبناء دولة المؤسسات وعلوية القانون فعليا، غير أن تلك التطلعات تلاشت شيئا فشيئا في زحمة الأحداث المشابهة والمتتالية في نفس الشارع وفي أغلب مناطق البلاد.

 بعد ثماني سنوات لم تكشف وزارة الداخلية حتى اليوم عن نتائج التحقيق، وهي في الواقع لا تمثل استثناء فغير ذلك كثير من التحقيقات لا تزال بدورها مدرجة في رفوف باقي الوزارات برغم النوايا المعلنة للإصلاح.

ولكن يلقى على عاتق وزارة الداخلية بشكل خاص تحديا مضاعفا، كونها ظلت على مدى عقود الأداة الرئيسية لنظام الحكم الاستبدادي قبل الثورة، من أجل الشروع جديا في بناء مصداقيتها لدى المواطن والانفتاح على مدونات حقوق الإنسان والشفافية.

لكن على النقيض من تلك الآمال جاءت نتائج المسح الوطني حول “نظرة المواطن إلى الأمن والحريات والحوكمة المحلية” الذي أنجزه المعهد الوطني للإحصاء في 2015 لتصدع بحقائق مخيبة لمزاعم الإصلاح: تصدر قطاع الأمن مؤشر الفساد والرشوة لدى المستجوبين بنسبة 68 بالمئة متقدما عن قطاعي الصحة والعدل على التوالي. ويعني هذا أن الطريق لا تزال طويلة من أجل التغيير.

وعلى الرغم من تلك الفجوة بين الأمن والمواطن، طرح في العام نفسه مشروع قانون زجر الاعتداء على القوات الحاملة للسلاح في مناخ من انعدام الثقة، بين الحق في الحماية من المخاطر الارهابية والتعويض من جهة، والمخاوف مما وراء الأكمة ونوازع التطويع للحريات تحت غطاء القانون المثير للجدل.

خمس سنوات من الشد والجذب لم تكن كافية حتى اليوم للحسم في مصير القانون.

ويهدف هذا القانون حسب فصله الأول إلى حماية قوات الأمن الداخلي والديوانة بمختلف أسلاكها المحددة بمقتضى قوانينها الأساسية. ولعل الفصل السابع من نفس القانون هو أكثر الفصول المثيرة للجدل الحقوقي والاجتماعي. جيث جاء فيه “لا يكون العون مسؤولا جزائيا عند قيامه بمهات أو تدخلات أثناء أدائه لوظائفه أو في علاقة بصفته وكذلك في إطار تطبيق الأطر الترتيبة لصيغ التدخل المنصوص عليها بالفصل الثالث من نفس القانون.

تصاعد وتيرة الجريمة ومكافحة الإرهاب مبررات للقانون ؟

في تقدير وزارة الداخلية ومن ورائها النقابات الامنية يستمد مشروع القانون مشروعيته من تصاعد عمليات مكافحة الإرهاب والجريمة ما يهدد بشكل مستمر حياة القوات الحاملة للسلاح وعائلاتهم.

يستشهد سامي القناوي كاتب عام النقابة العامة للحرس الوطني في حديثه مع “كشف ميديا” بعدد من استشهدوا من قوات الحرس الوطني وحده أثناء ادائهم لواجبهم، إذ يناهز عددهم المائة بجانب قرابة 50 عونا ممن يحملون عاهات دائمة.

ومع دعمه لوضع مدونة قانونية حامية للأمنيين فإن القناوي يعترف بأن النسخة الاولى لمشروع القانون التي طرحت في 2015 لم تحظ برضى النقابة نفسها، مضيفا “نحن مع التعديلات والحوار مع المجتمع المدني من أجل ضمان الحريات وبناء علاقة تفاهم مع المواطن ولكن ليس لتفريغ القانون من محتواه وتحويله الى فزاعة”.

من الناحية العملية يوضح القناوي بأن القانون لن يوفر حماية مطلقة لرجل الأمن غير انه برأيه يعلي هيبة المؤسسة والدولة عند التدخل في المناطق الساخنة لا سيما في ظل زيادة نسبة الجريمة والاعتداءات وهو لذلك ينطوي على طابعا زجريا.

لا يرى القناوي مبررا من سحب مشروع القانون وأن كل ما يحتاجه نصوصا ترتيبية لتوضيح الحد الفاصل في العلاقة بين رجل الأمن والمواطن، نافيا في نفس الوقت أي نوازع لتوسيع سلطة البوليس والعودة إلى الوراء.

غير أن الصورة ليست وردية لدى منظمات المجتمع المدني المتوجسة من مضمون عدد من الفصول، ولا سيما الفصل السابع، على الرغم من التعديلات المتلاحقة منذ 2015.

تحفظات قانونية وحقوقية

من الأهمية بمكان التذكير بمأخذين رئيسيين طرحتهما الجمعية التونسية للدفاع عن المحاكمة العادلة،أولها أن القانون يخالف المبادئ الجزائية الرامية لعدالة العقوبة نظرا لاعتماده “تقنية التجريم المفتوح” التي من شأنها أن تجعل حرية المواطنين في خطر نتيجة غياب دقة ووضوح النص الجزائي.

والمأخذ الثاني للمنظمة، أن القانون يخالف مبدأ الضرورة في التجريم الوارد في الفصل 49 من الدستور، إذ في تقديرها أنه ليس هناك من موجب لإفراد القوات الحاملة للسلاح بقانون جديد بينما تتوفر العديد من النصوص الجزائية التي من شأنها أن تضمن الحماية لهم.

حيث جاء في الفصل المذكور سلفا أن القانون هو من يحدد الضوابط المتعلقة بالحقوق والحريات المضمونة بهذا الدستور وممارستها بما لا ينال من جوهرها. ولا توضع هذه الضوابط إلا لضرورة تقتضيها دولة مدنية ديمقراطية وبهدف حماية حقوق الغير، أو لمقتضيات الأمن العام، أو الدفاع الوطني، أوالصحة العامة، أو الآداب العامة، وذلك مع احترام التناسب بين هذه الضوابط وموجباتها. وتتكفل الهيئات القضائية بحماية الحقوق والحريات من أي انتهاك.

لا يجوز لأي تعديل أن ينال من مكتسبات حقوق الإنسان وحرياته المضمونة في هذا الدستور.

لكن أبعد من ذلك فإن التحفظات التي أجمعت حولها المنظمات الحقوقية لا تكمن فقط في التضارب الصريح بين مضمون بعض فصول مشروع القانون مع الدستور والتهديد للحريات، ولكن القانون برمته يشرع لفتح باب واسع للحق في طرح مشاريع قوانين قطاعية موازية، وهو ما يتضارب أيضا مع مبدأ أساسي يتلخص في المساواة بين المواطنين المضمن في الفصل 21 من الدستور.

وبشكل عام يجد التوجس الجماعي من مشروع القانون صلب المجتمع المدني حسب رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان جمال مسلم في أفادته لـ”كشف ميديا”، أن تونس عاشت مرحلة طويلة من الاستبداد تميزت بإطلاق يد البوليس وثقافة الإفلات من العقاب. وفي رأيه أن ما يحدث اليوم هو محاولة لاستعادة تلك الحقبة عبر قانون فضفاض يتيح تأويلات متضاربة للجرائم المستوجبة لعقوبة الاعتداء على الأمن.

في تقدير مسلم فإن قوات الأمن باعتبارهم من موظفي الدولة فإن هناك ما يكفي من القوانين التي تنظم هذا القطاع مهنيا وتراعي حوادث الشغل التي يتعرض إليها الأمنيين. لكن مسلم يؤكد أيضا أن لا اختلاف في دعم المطالب بضمان الحقوق الاجتماعية والاقتصادية لرجال الأمن وعائلاتهم، بصفتهم معرضين لمخاطر الارهاب.

بغض النظر عن مدى مشروعية تلك المطالب فإن مشروع القانون الحالي يغذي الأزمة المستمرة لتضارب العديد من القوانين مع الدستور في ظل المأزق السياسي المعطل على مدى سنوات لانتخاب أعضاء المحكمة الدستورية، بالإضافة إلى ذلك خسر مسار الاصلاح المتعثر أصلا خطوات الى الوراء في بناء ثقة المواطن بدولة المؤسسات التي يتطلع اليها.

احتجاجات على وقع مناقشة القانون

منذ الثلاثاء الماضي تاريخ عرض مشروع القانون على مداولات مجلس نواب الشعب، كانت هناك تحركات من قبل منظمات المجتمع المدني دعت إليها “حملة حاسبهم”، وقد تخللها مواجهات مع قوات الأمن  وايقافات لبعض النشطاء كسيف العيادي وأسرار بن جويرة تم إطلاق سراحهم فيما بعد. تحرك ثاني ينتظم اليوم الخميس على الساعة  11:00 أمام المجلس الفرعي لنواب الشعب ( مجلس المستشارين سابقا )،للتعبير عن رفض مشروع قانون زجر الاعتداءات على القوات المسلحة.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه في حال تم التصويت على هذا القانون وتم تمريره، هل ستذعن منظمات المجتمع المدني للأمر الواقع الذي سيفرضه القانون الجديد، أو في حال فشل النواب في التصويت عليه ستكون هناك “هدنة” مجتمعية

بين رافض ومؤيد للقانون وطرف ثالث قد يساهم في صياغة نسخة تتماشى وتطلعات الجميع ؟

____________________________________________________________________

بمشاركة خولة بوكريم في التحرير