كشف


كوفيد-19: نهاية المسرح ومعركة المسرحيين الكبرى.. إمَّا الوجود وإمَّا الفناء

20/10/10

يجب أن نميز تمييزاً صارماً بين المسرح والمسرحيين. فلقد استطاع الكوفيد 19 تجميدَ هذا الفنّ إلى حين، بل وجعلَ منه مثابة مصنع عاطل عن العمل، أمّا ما يجري الآن من حراك مسرحي فهي محاولات لإنقاذ المسرحيين من وطأة الحاجة الاجتماعية. ولأنَّ مصير هؤلاء مرتبط بشكل يكاد كلّيا بنشاط هذا الفن، ولأنّ بنوكه مفلسة الآن فإن واقع المسرحيين لا يمكن أن يرتهن إلا للشتات؛ لقد خلت المدن من كرنفالاتهم عروضهم وصخبهم و ندواتهم ،تحولت قاعات العروض إلى ما يشبه الكاتدرائيات المهجورة.

 الأنكى من ذلك، وأمام تخييم الكارثة وهولها لم يفكر أحد في هؤلاء المسرحيين لا السلكة ولا وزارتهم المشرفة، ولا حتى انتبه أي من هؤلاء إلى غيابهم. إنهم هنا مثل يتامى الحروب ينتظرون المستحيل، أما رفضهم فشبيه بمأساة “دون كيشوت”، يقفون على حدّ القيامة ضدّ الجوع وضدّ الكوفيد وضدّ الأنظمة السياسية التي شطبتهم من اهتمامها ودفعت بالمسرح إلى القاع.

بسبب وباء كوفيد-19، أصبح 340 مسرحيا لا مورد رزق لهم بعد توقف العروض، وبات سيرهم سريعا نحو هاوية اقتصادية واجتماعية مظلمة. كما أن الكارثة وم تكتف بذلك، بل طالت كل المسرحيين بما في ذلك من يتعاطون مهناً أخرى. يصعب حصر الأرقام بشكل نهائي، ولكنه من المفزع أن تتوقف حوالي 600 شركة مسرحية وأكثر من عشرين مركز للفنون الدرامية وحوالي 48 فضاءا خاصا عن النشاط المسرحي. نعم، إنها المحرقة التي ذهب المسرحيون حطبها.

حرب وجود وقوت مفقود 

عندما عادت الحياة تدريجيا بعد نهاية الحجر الصحي، وبسرعة خيالية بدأ الحراك المسرحي، تمّ إحياء النقابة الأساسية لمهن الفنون الدرامية في الرابع من جويلية، وظهرت الجمعية التونسية لأكاديميي المسرح والفنون الدرامية، وانتفض الفنانون جميعا من أجل تفعيل قانون الفنان بشكل رسمي حيث شهدت الحياة المسرحية والثقافية سلسلة من الاجتماعات والنقاشات حول هذا الموضوع، وتم الإعلان بشكل رسمي عن عدم إلغاء أيام قرطاج المسرحية الذي تديره هذه المرة الأستاذة نصاف بن حفصية، وتأتي الدعوة هذه الأيّام إلى إحياء اتحاد الممثلين إضافة إلى نشاط النقابة الوطنية المستقلة لمحترفي مهن الفنون الدرامية.  يمكن القول، إن المسرحيين الآن بصدد ترميم مأساتهم على أن تبدأ انطلاقتهم من جديد وحلحلة جل الإشكالات العالقة. ولكن يبدو أن القدر السيزيفي يلاحقهم، إذ داهمهم الخراب من جهتين: سقوط الحكومة وعودة قانون الفنان إلى رفوف وزارة الثقافة، ثم عودة الكوفيد-19 بشكل مرعب وقاتل ومدمّر هذه المرّة. 

صورة لوزارة الشؤون الثقافية

لم يتنفسّوا الصعداء بعد، وفي اللحظة التي عادت فيها العروض والتظاهرات إلى مدينة الثقافة والفضاءات العمومية والخاصة على غرار التياترو، يأتي قرار الحكومة الجديدة بإلغاء كافة التظاهرات الثقافية. 

أسئلة في الواجهة

هل ثمّة مبرّر للخوف من الكوفيد 19 هذه المرّة؟ إن واقعا مرعبا كهذا الذي يعيشه المسرحيون يقتضي المواجهة ضدّ الجميع، ضدّ الفيروس والحكومات وربما لجان  الدعم السابقة: تلك التي تعمد دوما إلى إخصاء البعض من المبدعين، وتلك التي لا تمنح بقرار من وزارة الشؤون الثقافية سوى الفتات الذي لا يقدّ عملا مسرحيا من الدرجة الصفر.  على هذا النّحو، ابتدأت تحركاتهم ووقفاتهم الاحتجاجية من مدينة الثقافة إلى ساحة القصبة، لكنها لم تسفر إلا عن “مكاسب شفويّة” دون حتى محضر جلسة مسجّل أو ممضى مع الطرف الحكومي، وبخاصّة بعد إقالة وزير الثقافة وليد الزيدي. 

هل أخطأ المسرحيون بخروجهم إلى الشارع واحتجاجهم دون مراعاتهم لخطر الكوفيد 19؟ ألا يمكن القول بأنّ وضعيتهم الاجتماعية الحرجة أخطر عليهم من الكوفيد نفسه؟ ولكن لماذا لم يتحقق مطلب من مطالبهم حتّى الآن؟ هل يعود الأمر إلى شتاتهم الموزع بين النقابات وقد تعدّدت بتعدّد أزماتهم؟ هل لأنّ نضالاتهم شبيهة بفروسية “دون كيشوت” محارب الطواحين والرّياح؟  

كيف يمكنهم تحقيق مطالبهم والحال أنه كلما تقدمت مفاوضاتهم مع وزير مّا تتمّ إقالته أو تغييره بتغيير الحكومات تباعا؟ ألا تعدّ حربهم حربا ضدّ الوهم؟ كيف يمكن اختراع سكن للمسرحيين في مدينة لا ماهيّة لها؟ 

ألا يمكن القول بأن المسرح الآن يشهد تخصيبا مروّعا للفوضى؟ ألا يمكن القول بأنّ المسرحيين يتحملون جانبا من المسؤولية في عدم تحقّق قانون الفنان نتيجة اختلاف منظوراتهم إزاءه مثلهم مثل القطاعات الأخرى كالسينما والفن التشكيلي؟ لماذا يعمد السياسيون دائما إلى تهميش الفنّ حتّى أنّ وزارة الشؤون الثقافية نفسها تحوّلت إلى ما يشبه المدينة الأثرية القديمة متداعية الجدران تسكنها أشباح الإداريين والبيروقراطيين؟  هل ستنجح الهيئة المديرة لأيّام قرطاج المسرحية في تخطّي الكمّ الهائل من الصعوبات التي تعترضها: من ندرة العروض العربية والدولية إلى إشكالات استضافتها مستقبلا وصولا إلى المجهول الذي يخفيه فيروس كورونا وتداعياته السياسية والصحية؟ 

صورة لصامد ميعادي

ماذا لو كان تحت رماد المسرحيين سديم آخر قابل للانفجار؟ ماذا لو كان المسرح بوصفه “فنّا بطيئا” يلفظ هؤلاء المسرحيين تباعا في انتظار جيل جديد يقدّ همومه الإبداعية خارج زيف الحاجة الاجتماعية؟ 

ليس المسرح ما يفعله أو يقوله المسرحيون فحسب، وليس المسرح تقنية لإشباع البطون فقط، إنّه مرتبط أيضا بالمناخ السياسي الذي يحيا في تخومه منذ أوّل نشأته، أما القادم فلن يكون إلا بوصفه انفجارا يهزّ الحياة السياسية والاجتماعية برمّتها  ومن ثمّ سنشهد حياة مسرحية جديدة بالتأكيد !

على هذا النحو من ضراوة الوجود، وأمام الموت المؤقت للمسرح في انتظار مصل يعيد إليه الحياة، صار التفكير في الإبداع ضرباً من الجنون. على العكس، إن مطلب بقاء المسرحيين على قيد الحياة تحوّل إلى أولوية مطلقة، ومن هذه النقطة انطلقت شرارة الحرب التي خاضها هؤلاء. رُبَّ حرب لم تدافع عن المسرح بوصفه جمرة لتمعين المدن التي نسكنها وبوصفه فنّاً يقول رؤيتنا للعالم، بل حرب تدافع عن المسرح بوصفه مصدر رزق منها يعيش المسرحيون، حرب لا تهدف إلى إعادة الحياة إلى المسرح إلا بوصفه الضمانة الوحيدة لاستمرار المسرحيين والاعتراف بهم كمواطنين، حرب حدثت وقائعها وفق مسارين.

صورة لمحمد سفينة

شبح الكارثة: من السؤال عن المسرح إلى تدميره 

تميّزت الموجة الأولى للكوفيد 19 بالخوف والصدمة النفسية وتشغيل ثقافة القيامة والبحث عن شكل جديد من أشكال السكن في العالم ومصيره المستقبلي، ولهذا كان الحجر الصحي الذي التزم به الجميع منطقياً وضرورياً.

 ولأنّ الحياة برمتها توقفت فقد صمت المسرحيون أمام تجميد الممارسة المسرحية، لكنهم لم يتوقفوا عن التفكير في المسرح وقد أصابه شلل مخيف ومربك، إذ كيف يمكن قبول فكرة توقّف هذا الفنّ والحال أنّه أقدم عمرا من الإله التوحيدي ومن تاريخ الأوبئة برمّتها منذ أوّل طاعون ضرب البشريّة؟ رُبَّ سؤال تحوّل إلى ورشة للنقاش لم تفصح فيما بعد إلا عن طعنة جديدة أصابت هذا الفن في لحظة احتضاره، فلقد انتقل العالم برمّته للسكن في الفضاء الرقمي وهو ما يرفضه المسرح بوصفه واقعة فنية وجمالية لا تتحقق إلا عبر التواصل المباشر، أمّا أن نحاول ترحيله إلى ذلك الأفق الرقمي فضرب من الوهم الذي مارسه المسرحيون حتّى يتسنّى لهم تخطّي فزعهم النفسي أمام هول ما يحدث. 

منذ أوّل الحجر الصحي الذي رافقه حظر التجول ليلا أنشأ المسرحي التونسي نزار السعيدي مجموعة على الفايسبوك أطلق عليها تسمية “بعد الرابعة مساء” تابعها أكثر من 2600 مشاهد، كان ذلك بتاريخ 15 مارس 2020، والهدف منها مشاهدة العروض المسرحية المصوّرة ومن ثمّ مناقشتها. 

تزار السعيدي

ربّ حدث بسيط كان ممكناً أن يكون عابراً انتقلت عدواه إلى مصر والمغرب الأقصى وجملة من البلدان العربية الأخرى. لم يتوقّف الأمر عند ذلك الحدّ، فلقد صعدت أقلام نقدية وأخرى لبعض المبدعين منادية بتشغيل التظاهرات والمهرجانات المسرحية  افتراضيا، وهذا عين الخطأ، إذ لا معنى للحديث عن المسرح دون فرجة تلتحم فيها الأجساد، ولا معنى للحديث عن المسرح ونحن أمام شاشات الحواسيب، ولا معنى للحديث عن المسرح دون لقاء حيّ بين مؤدين وجمهور: هكذا تمّت عملية تعذيب هذا الفن في سياق هذه الحرب المفهومية بعد أن اشتعلت أقلام النقاد بخصوص هذه المسألة تونسيا وعربيا، وأفرزت ما يقارب مائة وأكثر من مقال تفرّقت في مواقع التواصل الاجتماعي والصفحات المهتمة بالشأن المسرحي. نعم،وكأنه تمّ تقطيع  جسد هذا الفنّ كما لو أنه بشريّ اشتدّت عليه وطأة السعال والحمّى فانفجرت رئته نتيجة ذلك الفيروس المروّع. 

نعم، لقد كان المسرحيون مثلهم مثل كل المنتسبين إلى القطاعات الأخرى في حاجة حتّى إلى الوهم. ولذلك فهي حرب للتموقع وإثبات الذات المسرحية. لم يعد ممكنا أن نتحدث عن مسرح دون مسرحيين إذن ! فما الذي أقدم عليه هؤلاء أمام هذه الصحراء؟ 

ليس ثمّة صرخة أطلقها المسرحيون من قبل أكثر وطأة من التي حدثت، وكأنّها أتت على لسان جبران خليل جبران “إذا غنيت للجائع سمعك بمعدته”. 

قدر مأساوي دفعهم إلى انتظار منحة الكوفيد 19 من وزارة الشؤون الثقافية والحال أنها لم تتجاوز أربع مائة وخمسين دينارا، ويا لهذا القدر المأساوي مرة أخرى الذي جعل من تلك الوزارة تعمد إلى تهميشهم وإذلالهم والدفع بهم إلى محرقة التسوّل بعد أن حدّدت معيارا مجحفا لتلك المنحة والحال أن الجميع قد تضرر مبدعين وتقنيين وفضاءات خاصة إضافة إلى الصحافيين المهتمين بالشأن المسرحي كتابةً: لم يتبقّ لهم سوى الغضب، غضب كانت شرارته الأولى تأسيس التنسيقية الوطنية لخريجي الفنون الدرامية المعطلين عن العمل بتاريخ 19 أفريل 2020، وعددهم بما في ذلك أصحاب العقود الهشة وصل حدود ثلاث مائة وعشرين شخصا.

____________________________________________________________________ بمشاركة خولة بوكريم في التحرير