كشف حكومي


الاتفاقية المشتركة للصحافيين: القصة الكاملة من حلم إلى انتصار على السلطة التنفيذية

20/11/11

بقلم رئيسة التحرير

لم تكن مسألة إرساء تشريع منظم لمهنة الصحافة فيما يخص العلاقة الشغلية بين الصحافي ومشغله أمرا هينا البتة في تونس. بل اتخذ مسارا طويلا من النضالات والمقاربات والمقترحات وحتى المسودات التي عرفت تعديلات كثيرة وخاصة عقبات عدة. 

إلى حين صدور حكم استعجالي من المحكمة الإدارية قاض بنشر الاتفاقية المشتركة للصحافيين التونسيين في الرائد الرسمي. خبر أثلج صدور الصحافيين أعلن عنه اليوم 11 نوفمبر 2020، نقيب الصحافيين محمد ياسين الجلاصي

نسرد في كشف ميديا المسار الزمني لهذه الاتفاقية وما عاشه الصحافيون معها من نقاط تحول وتضييقات معتمة على خروج حلمهم إلى النور

مشروع الاتفاقية المشتركة للصحفيين لم تكن فكرة حديثة الاقتراح او الولادة بل كانت فكرة عتيقة  وحلما قديم راود مخضرمات/مي الصحافة التونسية منذ أواخر التسعينات. وهنا يستحضر رئيس تحرير جريدة الشعب يوسف الوسلاتي، تفاصيل تلك الحقبة متحدثا لـ”كشف ميديا”:

الزميل  فتحي العيادي كان قد أشرف على صياغة مسودة في أوائل الألفينات من القرن الماضي، في حين تعطل هذا المسار وقتها بسبب عدم إمكانية جمعية الصحافيين التونسيين من التفاوض بشأنها. وذلك لعدم امتلاكها الأهلية القانونية لأنها جمعية. ومنذ ذلك الحين بدأ التفكير في تغيير الصبغة الممثلة للصحافيين من جمعية إلى نقابة.

النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين انكبت منذ أواخر سنة 2015 في صياغة مسودة للاتفاقية المشتركة للصحافيين، صاغها وقتها الأستاذ النوري مزيد. و الذي كلفه المكتب التنفيذي المنتخب في مؤتمر 2014، بقيادة النقيب الأسبق ناجي البغوري، ويضم كل من يوسف الوسلاتي، زياد دبار، سكينة عبد الصمد، سيدة الهمامي، عايدة الهيشري، حاتم بالحوش، كريم اللطيفي الراحل خميس العرفاوي، بتقديم مقترح اتفاقية اطارية مشتركة للصحافيين وعرضها فيها بعد خلال اجتماعات المكاتب التنفيذية الموسعة والجلسات العامة لمناقشتها من قبل الصحافيين وتطوير بنودها المقترحة.

وقد حاولت النقابة  طيلة السنوات 2015-2016-2017-2018-2019 العمل على مشروع اتفاقية قطاعية إطارية مشتركة للصحفيين أسوة بالتوجه العام للحركة الصحفية العالمية، ورغبة منها في توفير أحسن الظروف الاجتماعية والاقتصادية للصحافيين التونسيين كنظرائهم اقليميا ودوليا.

ولعل وجود قناعة راسخة لدى المكاتب المتعاقبة على قيادة النقابة عزز فكرة العمل على تنفيذ اتفاقية مشتركة للصحافيين حتى تكون  أفضل طريقة للحصول على أجور محترمة تحفظ كرامة الصحفي (ة). ومن أجل ضمان ظروف تشغيل مهنيّة ملائمة، وكما أنها أنجع وسيلة لحماية الحقوق المهنيّة والاجتماعية للصحفيين.

النقابة جابت بمسودة الاتفاقية المشتركة عرض البلاد وطولها

على الرغم من طرح مسودة الاتفاقية المشتركة من قبل المكتب التنفيذي المذكور سلفا خلال اجتماع لمكتب التنفيذي الموسع بتاريخ 31 ديسمبر 2016، إلا أنها لم تكتف بنقاشها مع رؤساء الفروع المركزية والجهوية ورؤساء واللجان والأعضاء المناوبون، بل عملت النقابة على تنفيذ استشارات موسعة على كامل تراب الجمهورية، حتى تصل إلى أكثر ما يمكن من الصحافيين في الجهات.

وقد نفذت النقابة منذ سبتمبر 2017، غداة تجديد العهدة لناجي البغوري وانتخاب كل من سكينة عبد الصمد ومحمد بشير شكاكو وفوزية الغيلوفي ومحمد اليوسفي وسوسن الشاهد و زياد دبار والراحل خميس العرفاوي، سلسلة من الزيارات للفروع في الجهات قادها المكلف بالنظام الداخلي وقتها محمد ياسين الجلاصي، في كل من المنستير والكاف وصفاقس وقفصة وتطاوين.  وقد انتضم لقاء ختامي بتونس العاصمة لمناقشة مشروع الاتفاقية المشتركة للصحفيين في 27 ديسمبر 2017.

9 جانفي 2019 تاريخ فارق في نضالات الصحفيين التونسيين 

توقيع الاتفاقية الاطارية المشتركة في 9 جانفي 2019  بمقر رئاسة الحكومة بالقصية انجاز اعتبره الاتحاد الدولي للصحافيين وقتها تاريخي، ومكسب رواه الصحافيون والنقابيون بنضالاتهم وتمسكهم بحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية. هذه الخطوة النوعية لم تكن بالأمر اليسير.

حيث سبق الوصول إلى أسوار القصبة سلسلة من المفاوضات واللقاءات الماراثونية مع جامعة مديري الصحف ونقابة التلفزات الخاصة وغيرها من المنظمات الممثلة للأعراف في قطاع الصحافة التونسية المكتوبة والمسموعة والمرئية بحضور الخبير في المفاوضات الاجتماعية عمار الينباعي وأعضاء المكتب التنفيذي ناجي البغوري وزياد دبار وفوزية الغيلوفي ومحمد ياسين الجلاصي.

اتفاقية إطارية التزم بتنفيذ بنودها ممثلون عن كل من النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين ووزارة الشؤون الاجتماعية و وزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية و وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري و الجامعة التونسية لمديري الصحف و الغرفة الوطنية النقابية للقنوات التلفزية الخاصة و الغرفة الوطنية النقابية للإذاعات الخاصة و مؤسسة التلفزة التونسية ومؤسسة الاذاعة التونسية وكالة تونس أفريقيا للأنباء و الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري.

السلطة التنفيذية “تمردت” على الاتفاق والنقابة تمسكت بنشر الاتفاقية

لم تدم فرحة الصحافيين طويلا حيث بدأت تظهر بوادر تراجع من قبل الحكومة عن تنفيذ الاتفاق. ولعل تصريح وزير الشؤون الاجتماعية محمد الطرابلسي في 27 فيفيري 2019 الذي قال فيه حرفيا “يجب إحالة الاتفاقية إلى تفقدية الشغل و والوقوف على مدى مطابقتها لمجلة الشغل، مضيفًا ” المحكمة الادارية  ستدرسُ مدى تجانس الاتفاقية مع مجمل الأوامر والقوانين في البلاد“، قد بدأ يثير حفيظة النقابة مما اضطر النقيب الاسبق إلى اعتبار تصريحات الطرابلسي إما ” اجهل بالقوانين أو سوء نية“.

ومن المتعارف عليه أن مرجع نظر الاتفاقيات ليس التفقدية العامة للشغل حيث لا تتمثل  مهامها في مراجعة القوانين بل في فض النزاعات الشغلية. وإنما  مرجع الاتفاقيات هي الإدارة العامة للتفاوض بوزارة الشؤون الاجتماعية. كما أن رأي الإدارة العامة للتفاوض يجب أن يكونَ  قبل إمضاء الاتفاقية وليس بعدها، كي لا يمضي السيد الوزير على أشياء “مخالفة للقانون” . النقابة وقتها ردت على الطرابلسي واعتبرت تصريحاته كارثية ولا تعدو سوى مغالطات ومراوغات لا تعكس سوى سوء نية ومماطلة ، كما أنها برهان جلي على عداء واضح تجاه الصحفيين وحقوقهم.

في الثالث من مارس 2019، أي أيام قليلة بعد خلاف النقابة و وزارة الشؤون الاجتماعية ينعقد المكتب التنفيذي الموسع و يعتبر في بيان صادر عنه عدم  عدم نشر الاتفاقية المشتركة في الرائد الرسمي هو موقف معاد من الحكومة ضد الصحفيين وحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية.

وطلب المكتب التنفيذي الموسع من المكتب التنفيذي للنقابة اتخاذ مواقف صارمة من تنصل الحكومة من كل التزاماتها ومماطلتها غير المبررة لكل مطالب النقابة والصحفيين التي أعلن عنها رئيس الحكومة يوم 14 جانفي 2017

كما دعا وقتها المكتب التنفيذي الموسع إلى خوض كل أشكال النضال المتاحة لضمان تنفيذ بنود الاتفاقية الاطارية المشتركة للصحفيين بما فيها الإضراب العام في القطاع.

لم تستسلم النقابة على الرغم من التجاهل الحكومي الحاصل وقتها وانكباب الحكومة على التحضير للانتخابات الرئاسية والتشريعية، حيث أعلن النقيب الأسبق ناجي البغوري، في في 3 ماي 2019، عن قيام مصالح رئاسة الحكومة بالإجراءات الإدارية من أجل صدور الاتفاقية الاطارية المشتركة في  الرائد الرسمي، معلنا بداية مرحلة جديدة للصحافة التونسية تقطع مع تهميش الصحفيين  وإنهاكهم المهني والاجتماعي.

وكانت أول ثمار الاتفاقية تطبيق بنودها في مؤسسة كاكتوس بورد المصادرة بتاريخ 21نوفمبر2019  

صورة من موقع النقابة الوطنية للصحفيين لجلسة اتفاق بين نقابة الصحافيين وممثلين عن مؤسسة كاكتوس برود المصادرة

مسار نشر الاتفاقية وحتى تنفيذها تعطل مع تعاقب الحكومات وتغير الوزراء وعدم وجود خط حكومي مستقر دخلت النقابة على إثره في مسار قضائي، رافعة دعوى في أوت 2020 ضد رئاسة الحكومة في المحكمة الإدارية، نوبها فيها الأستاذ عبد الجواد الحرازي من أجل نشر الاتفاقية المشتركة في الرائد الرسمي. 

مسار طويل وعسير توج بانصاف المحكمة للنقابة ومنظوريها على حساب السلطة التنفيذية وتبقى الـآن الكرة في ملعب رئاسة الحكومة التي عليها أن تثبت أنها لا تقف عقبة دون وصول الصحافيين لحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية.