21/04/05
السيدة م.ن، 56 عاما، تتجدد معاناتها في كل مرة تقصد فيها المستشفى الجهوى بمدينة مكثر من ولاية سليانة لطلب أدوية السكري وضغط الدم. فهي لاتجدها في غالب الأحيان وتضطر في كل مرة إلى البحث عنها في الصيدليات.
“أحيانا أقوم باستعارة بعض هذه الأدوية من أحد الجيران المصابين مثلي بالسكري وضغط الدم، حتى أجد الدواء خارج مكثر وأكون قبل ذلك قد أوصيت أكثر من شخص لجلبه. وفي أحيان أخرى أنا من يُعير جيراني أقراص من أدويتي على رغم شحها. هكذا الحال هنا في ظل غياب إجابة واضحة عن سبب فقدان هذه الادوية أو مواعيد جلبها للمستشفى”.
وتشهد العديد من المستشفيات العمومية ومراكز الصحة الأساسية التونسية اكتضاضا دائما بمصابي الأمراض المزمنة كالسكري وضغط الدم وغيرها للحصول على الأدوية، إلا أن هذه المعاناة تفاقمت بشكل كبير خاصة مع الموجتين الأولى والثانية لانتشار فيروس كوفيد-19 وتطبيق بروتوكولات صحية منعت لفترة طويلة المرضى من المتابعة مع طبيبهم المباشر وصعبت ولوجهم إلى الأدوية.
بحسب منظمة الصحة العالمية الأمراض المزمنة هي تلك التي تدوم فترات طويلة وتتطوّر بصورة بطيئة عموماً. مثل أمراض القلب والسكتة الدماغية والسرطان والأمراض التنفسية المزمنة والسكري، والتي تأتي في مقدمة الأسباب الرئيسية للوفاة في شتى أنحاء العالم. إذ تقف وراء 63% من مجموع الوفيات.
ووفق احصائيات نشرها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية سنة 2020 فإن مراكز الصحة الأساسية والمستشفيات المحلية مكلفة بتسليم الأدوية دوريا إلى أكثر من مليون مريض/ة مزمن (منهم أكثر من 800 ألف مصاب بمرض السكري و/أو ضغط الدم المرتفع) يتابعون أمراضهم في الهياكل الصحية العمومية (حوالي 600 ألف في مراكز الصحة الأساسية والبقية في المستشفيات).
وعلى الرغم من أن دواء السكري يحظى بدعم كبير من الدولة، إلا أنه يبقى شحيحا في عدة أماكن من الجمهورية، في مكثر من ولاية سليانة كما في معتمدية الكرم من ولاية تونس، الوضع لا يختلف كثيرا. ولعل أم مريم /63 عاما واحدة من مئات المواطنين/ات الذين لا يعقوهم صف الانتظار الطويل للحصول على الدواء المفقود. حيث تذهب كل 15 يوما إلى مركز الصحة الاساسية بالكرم، ولا تجد دوائها وتضطر إلى البحث عنه و شرائه من الصيدلية.
أنا حاليا لا أعمل وليس لي أي جراية تقاعد، وأحد ابنائي يتكفل بي، دائما ما نضطر لشراء هذا الدواء من الصيدلية، أمر قد يبدو هينا لدى البعض، لكنه مربك لميزانيتنا العائلية الضعيفة في الأصل.
العربي الجلاصي صيدلاني بالعاصمة تونس، يؤكد في حديثه لنا أنه بحكم عمله يقابل عديد الحالات المعوزة التي تأتي تبحث عن أدوية الأمراض المزمنة كما أن شراء هذه الأدوية من الصيدلية يضاعف معانتهم ويؤثر سلبا على قدرتهم/نّ الشرائية. ويشير الجلاصي إلى أن هناك من يأتي ويطلب تأجيل دفعها، لأنه بالفعل لا يملك ثمنها.
ويؤكد محدثنا أن هناك من المرضى من يطلب أحيانا أدوية بديلة عن الموصوفة لهم في المستشفى دون الرجوع إلى الطبيب المباشر لأن ذلك سيكلف وقتا أطول في الانتظار.
هادية، 60 عاما، هي الاخرى تشتكي من عدم توفر دواء ضغط الدم “Lopril” في المستشفى الجهوي بخير الدين بالعاصمة، وقد تعرضت أثناء الموجة لانتشار جائحة كوفيد-19 إلى تعكر حالتها الصحية بعد انقطاعها عن تناول هذا الدواء وعدم قدرتها على الولوج إليه في تلك الفترة.
“كانت فترة صعبة اضطرت ابنتي إلى ان تشتري لي كمية صالحة لثلاثة أشهر من هذا الدواء حتى لا يتكرر معي نفس الأمر. سعره قد يبدو عاديا للبعض لكن اقتنائه بصفة دورية بدل الحصول عليه مجانا يؤثر على المقدرة الشرائيةّ”.
الفصل 38 من الدستور التونسي “الصحة حق لكل إنسان” و”تضمن الدولة الوقاية والرعاية الصحية له، و”توفر الإمكانيات الضرورية لضمان السلامة وجودة الخدمات الصحية”.
إلا أن هذا انتهاك هذا الحق يحيلنا إلى التساؤل عن نجاعة السياسات العمومية للصحة في هذا المجال والتي تسببت في اضطرابات عديدة في التزود والتزويد بالأدوية، وأضرت ببعض المصنعين/ات التونسيين/ات في مجال الأدوية.
الدكتور ي.ب يعمل حاليا في شركة مصنعة للأدوية ويراقب عن كثب معضلة نقص الأدوية المزمنة في المستشفيات العمومية ومراكز الصحة الأساسية، يؤكد في حديثه لنا أن هناك سياسة عمومية غير ناجحة فيما يخص دعم الأدوية وأن المخابر التونسية بإمكانها تصنيع أدوية أساسية عديدة مثل عقار “الأنسولين”، الذي تضطر شركته إلى توريده من الخارج.
وحتى هذا الأمر يجابه بالتعطيل بسبب عدم دفع الصيدلية المركزية التونسية ديونها للمزودين الأجانب وهو ما يجعلهم يرفضون تزويد المخابر التونسية.
وجدير بالذكر أنه وفق تقرير قدمته الصيدلية المركزية في ماي 2020 خلال جلسة استماع بمجلس نواب الشعب بلغت ديونها 621 مليون دينار تونسي.
“نستطيع تصنيع عشرات الأدوية في تونس لأننا من بين أفضل المصنعين في أفريقيا والعالم العربي لكننا نجد عديد العوائق من بينها التراخيص الخاصة بالتصنيع.
قدمت شركة الدكتور ي.ب للصيدلية المركزية و وزارة الصحة طلبات لتصنيع عقار “الأنسولين” في تونس منذ سنة 2014، إلا أن الشركة لم تتحصل لا على موافقة ولا على رد بشأن طلبها إلى حد صياغة هذا المقال. ويستغرب الدكتور ي.ب مضي الدولة التونسية في استيراد عقار “الأنسولين” عن طريق العملة الصعبة في حين بالإمكان منح التراخيص اللازمة لتصنيعه في تونس هو وعدة ادوية أخرى وشرائه بالعملة التونسية.
وفق نفس التقرير المذكور سلفا، قدم الرئيس المدير العام الأسبق للصيدلية المركزية خليل عموس مجموعة من المعطيات حول العجز في السيولة لدى الصيدلية المركزية، الذي بلغ مستويات قياسية، أصبحت تشكل خطرا جديا على المنشأة، على حد تعبيره. حيث أصبحت غير قادرة على الإيفاء بجزء كبير من التزاماتها المالية تجاه مزوديها وخاصة الأجانب منهم رغم لجوئها في العديد من المناسبات الى الاقتراض البنكي لتغطية النقص الكبير المسجل في السيولة المالية المتأتية من حرفائها العموميين.
ولعل من أبرز المشاكل الأخرى التي تتسبب في الإضرار بميزانية الصيدلية المركزية التونسية وبالتالي التأخر في توفير الأدوية الحياتية الأخرى للأمراض المزمنة هو إصرار القائمين على السياسة العمومية للصحة على جلب بعض الأدوية من الخارج على الرغم من وجود عدة أنواع متطابقة لها في السوق التونسية، وهنا يشير الدكتور ي.ب أن هذا الأمر يعد ضربا من ضروب إهدار المال العام في تونس.
“تبلغ قيمة التوريد بين 60 و80 مليون دينار تونسي في السنة، وهو أمر في اعتقادي يضر بميزانية الصيدلية المركزية و يستنزف مخزون الدولة من العملة الصعبة، كما أنه تبذير للمال العام”.
الدكتور نزار العذاري، رئيس قسم طب الشغل بوزارة الصحة، في مستشفى شارل نيكول خلال حديثه لنا لا ينكر أن من بين الأسباب الرئيسية لنقص الأدوية الحياتية في المستشفيات العمومية ومراكز الصحة الاساسية هو الدعم العشوائي للأدوية المستوردة، كما يشير إلى أن الصيدلية تستورد أدوية غير موجودة بالسوق التونسية للايفاء بالحاجيات الأخرى للمواطنين/ات.
إلا أنه يشدد على أن عدم خلاص مستحقات الصيدلية المركزية و المتخلدة بالذمة من قبل المستشفيات العمومية ومراكز الصحة الأساسية هو أحد الأسباب الرئيسية في عجز ميزانية الصيدلية المركزية وبالتالي عجزها عن توفير الأدوية.
هي سلسلة مترابطة إذا تم تفكيكها يحل الإشكال، لو دفعت كبرى الشركات ديونها للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي “CNSS” لدفع هو ما تخلد بذمته للصندوق الوطني للتأمين على المرض “CNAM” وبالتالي سداد مستحقات الصيدلية المركزية.
الصيدلية المركزية التونسية اليوم تجد نفسها عاجزة عن سداد ديونها للمزودين الأجانب وعاجزة عن توفير الأدوية دون البحث عن حلول جذرية من الدولة لهذا العجز.
وفيما يخص الحلول المتاحة لدى الصيدلية للتخفيف عن عبئها، يرى الدكتور ي.ب أنه من الضروري البدء في منح التراخيص اللازمة لمصنعي الأدوية الحياتية في تونس والتي سيكون ثمن اقتنائها أقل بكثير من استيرادها بالعملة الصعبة. كما يدعو الصيدلية المركزية التونسية و وزارة الصحة إلى مراجعة سياسة دعم الأدوية.
كتب هذا المقال بصيغة حساسة للجندر