كشف معلومة


الكنام وتمويله المتنامي للقطاع الخاص على حساب القطاع العام: ضرورة صحيّة أم سياسة ممنهجة؟

21/05/24

بقلم رئيسة التحرير

أحدث نظام للتأمين على المرض في تونس بموجب قانون عدد 71 لسنة 2004 مؤرخ في 2 أوت 2004،  لفائدة المضمونين/ات الاجتماعيين/ات وأولي الحق منهم، والذي ينبني على مبادئ التضامن وتكافؤ الحقوق في إطار منظومة صحية متكاملة تشمل الخدمات المسداة بالقطاعين العمومي والخاص للصحة، وفق ما جاء في الفصل الأول من القانون. ويتضمن نظام التأمين على المرض نظاما قاعديا إجباريا و أنظمة تكميلية اختيارية. كما تنطبق أحكام هذا القانون على المضمونين/ات الاجتماعيين المنصوص عليهم بمختلف الأنظمة القانونية للضمان الاجتماعي.

إلا أن مبدأ تكافؤ الحقوق هو الغائب بشكل كبير، في ظل منظومة صحية لم تحقق التكامل بعد. إذ تشهد فيها تنمية الخدمات الصحية في القطاع الخاص طفرة نوعية على حساب تراجعها في القطاع العام. تزامنا مع ارتفاع كبير لتمويل الصندوق الوطني للتأمين على المرض “الكنام” للقطاع الخاص على حساب القطاع العام، وهو ما يدفعنا للتساؤل عن الأسباب الحقيقة لهذا الارتفاع وعمَّا يدفع عديد المواطنين/ات نحو اللجوء إلى خدمات القطاع الخاص رغم تردي الظروف الاقتصادية والاجتماعية لشريحة واسعة منهم.

تردّي جودة الخدمات الصحية العمومية

يتعهد الصندوق الوطني للتأمين على المرض بالتكفل بالإقامة الاستشفائية داخل المستشفيات العمومية أو المصحات الخاصة حسب نفس الشروط والإجراءات لفائدة جميع المضمونين/ات الاجتماعيين، دون الأخذ بعين الاعتبار للمنظومة العلاجية التي ينتمون إليها (منظومة العلاجية العمومية أو منظومة العلاجية الخاصة أو نظام استرجاع المصاريف) ويتولى الصندوق الوطني للتأمين على المرض التكفل المباشر بجميع الإقامات الاستشفائية مهما كانت طبيعتها بالمستشفيات العمومية، ولا يتحمل المضمون/ة الاجتماعي إلا قيمة المعلوم التعديلي الذي يبقى على كاهله أما بالنسبة للمصحات الخاصة، فإن الصندوق الوطني للتأمين على المرض يتكفل بالعمليات الجراحية وذلك حسب القائمة الرسمية المحددة بموجب قرار مشترك بين الوزيرين المكلفين بالضمان الاجتماعي والصحة العمومية والمؤرخ في 29 جوان 2007، وذلك إلى جانب التكفل بالولادة، وفي هذه الحالة يمكن للمضمون الاجتماعي أن يتحصل بصورة مسبقة على قرار تكفل صادر عن مصالح الصندوق يخول له تجنب خلاص كامل مصاريف علاج هذه الإقامة الاستشفائية.

إلا أن كل هذه المميزات النظرية والمنشورة في قانون تأسيس الصندوق المذكور سلفا تبدو غير مطابقة لما يحدث مع المواطنين/ات الذين أصبحوا مكرهين على الاتجاه للقطاع الخاص بشكل فرضه تردي الخدمات في المؤسسات الصحية العمومية، التي حتى وإن اتجهوا إليها تبقى حقوقهم في استرداد مصاريف علاجهم مهضومة.

ولعلَّ حمدي.ع، 35 عاما، واحد منهم. اصطدم حمدي بخدمات صحية متردية في مستشفى وسيلة بورقيبة أجبرته هو وزوجته على اختيار إجراء عملية ولادتها بمصحة خاصة. محدثنا متعاقد مع “الكنام” وفق نظام استرجاع المصاريف؛ والذي يمكن استرجاع مصاريف مضمون/ة الاجتماعي من العلاج لدى كل مقدمي الخدمات الصحية المتعاقدين من القطاعين العمومي والخاص، ويتولى بمقتضى ذلك دفع المبلغ الكامل للتعريفة التعاقدية ثم التقدم بمطلب في استرجاعها لأحد المراكز الجهوية والمحلية للصندوق في أجل لا يتعدى 60 يوما من تاريخ العلاج.

شاهدتُ بأمّ عيني معاملة أقلّ مايقال عنها مهينة لكرامة النساء في مستشفى وسيلة بورقيبة، وقاسية عليهنَّ جدّا وهنّ في وضعية الحمل والولادة. هذا علاوة على الأوساخ والتدخين المباح في كل مكان، حتى بالقرب من غرف الرضع، وكأننا لسنا في مستشفى بل في الشارع.”

يقول حمدي أنه ارتأى دفع أضعاف المبلغ المتوجب دفعه  في المستشفى العمومي والمقدر ب70 دينار، وتحمَّل كل الأعباء والمصاريف الاضافية حتى لا تلد زوجته في ظروف مشابهة. ويؤكد أن المصحة الخاصة رفضت قبول مطلب “التكفل بالمصاريف la prise en Charge” الذي من المفترض أن تقوم بإرجاعها الصندوق الوطني للتأمين على المرض.

أجبروني على دفع 1700 دينار قبل دخول المستشفى ورفضوا قبول استمارة التكفل بالمصاريف، متحججين بأن لديهم مستحقات غير مدفوعة من “الكنام” وأن طريقة استرجاعي للمصاريف هي مسؤوليتي وحدي”.

يؤكد محدثنا أنه دفع منذ سنتين مبلغ 1500 دينار وأنه لم يسترجع من “الكنام” سوى مبلغ 700 دينار بعد مرور وقت طويل على الولادة.

للأسف عملية استرجاع المصاريف برمَّتها ليست مضمونة أنتَ وشطارتك وحتى هناك من نصحني أن يكون لديّ معارف في “الكنام” حتى أحصل على حقي الكامل. من المؤسف أن تسير الأمور هكذا في بلادنا.”

حمدي.ع كان يشتغل في تلك الفترة تقني سامي في الهندسة المدنية في شركة خاصة، ويؤكد أن ظروفه المادية لم تكن تسمح له بدفع مبلغ مشابه بطريقة مريحة، بل اضطر للبحث عمَّن يدعمه لدفعها، ولولا الخدمات الصحية المتردية في مستشفى وسيلة بورقيبة، لما اضطر إلى الالتجاء للقطاع الخاص ودفع كل ذلك المبلغ الذي لم يسترده كاملا.

ولعل من بين أسباب تدني خدمات الصحة العمومية، هو نظام تمويل المنظومة الصحية وأسلوب التصرف في الميزانية. وهو ما أكدته دراسة بعنوان “وهن نمط الحوار الاجتماعي في قطاع الصحة العمومية” والصادرة سنة 2016، والتي تشير إلى أن نظام تمويل المنظومة الصحية وأسلوب التصرف في الميزانية يساهمان في تدني خدمات الصحة العمومية. كما أن المساهمة النسبية للدولة في تمويل الصحة تبقى دون مستوى مساهمتها لفائدة الأسر والصندوق الوطني للتأمين على المرض. وهو ما يؤثر على التفاوت المسجل في مجال استفادة المواطنين/ات بالرعاية الصحية في ظل ظروف لا تزال فيها نسبة البطالة مرتفعة، و نسب الفقر في ازدياد مطرد واستمرار للأزمة الاقتصادية والاجتماعية، ومؤخرا تداعيات جائحة كوفيد-19.

كلفة باهظة على المضمونين الاجتماعيين

تشير الإحصائيات المسجلة من الصندوق الوطني على المرض ارتفاعا في تمويل القطاع الخاص خلال الخمس سنوات الأخيرة. وذلك خاصة فيما يتعلق بمصاريف العمليات الجراحية وعمليات الولادة كما تبينه الرسوم أدناه. وعلى الرغم من التراجع الضئيل لعدد المنتفعات بعمليات الولادة في القطاع الخاص بين سنوات  2016 و 2017 و2018،  إلا أن المبلغ الجملي للمصاريف بقي مستقرا في أكثر من 29 مليون دينار كما تؤكده الرسوم أدناه.

زهرة (اسم مستعار)، 61 عاما، تعاني من أمراض مزمنة، متعاقدة مع “الكنام” وفق منظومة العلاجية العمومية، دفعت خلال سنة أفريل 2020 مبلغ 140 دينار في مصحة خاصة بمنطقة البحيرة مقابل فحص عيون، أجبرتها طبيبتها المباشرة في الصحة العمومية على إجرائه، معللة ذلك بتعطل آلة الكشف الخاصة بالمستشفى وأن عليها القيام بهذا الفحص بسرعة لأنها تعاني من ألم واحمرار شديدين فيهما.

“أنا متقاعدة، وجرايتي لا تتجاوز 500 دينار، وأدفع إيجار 650 دينار يساعدني ابني في دفع باقي المصاريف الاضافية، إلا أنني أعاني في كل مرة أعالج فيها من الأمراض المزمنة أو بالنسبة لعيناي من الالتجاء للقطاع الخاص، ودفع مصاريف اضافية للأدوية أو الفحوصات. الغريب أن بعض الأطباء الذين يخبروننا بأن آلات فحص العيون معطلة أو حتى أجهزة الأشعة الأخرى ولن يتم صيانتها في قريب عاجل. لنعود بعد أسبوع ونجد بعض المرضى أجروا نفس الفحوصات في المستشفى. وهنا أتساءل هل دولتنا حقا تعالجنا بأسعار تناسب ظروفنا في مستشفياتها، أم هي تضغط علينا حتى ندفع أكثر للقطاع الخاص ؟.”

تؤكد زهرة أنها حاولت استرجاع مصاريف هذا الفحص من “الكنام” لكنهم رفضوا ذلك.

“أعلم بأنني مسجلة في المنظومة العلاجية العمومية، لكنني أردت المحاولة، قد يبدو المبلغ ضئيلا أو سخيفا بالنسبة للبعض، لكن ظروفي صعبة وأحتاج إلى كل مليم.”

يؤكد مقال علمي منشور بالمجلة الطبية التونسية سنة 2018  إلى أن الأسر التونسية تدفع مباشرة من جيوبها 39 ٪ من نفقات الرعاية الصحية الحالية حوالي نصف نفقات CNAM. هذه النفقات التي تتم لسداد الاستشارات والاستكشافات والإقامة الاستشفائية في العيادات الخاصة والسلع الطبية (الأدوية والأجهزة الطبية) في الصيدليات الخاصة.

وتتأتى موارد صندوق “الكنام” أساسا من اشتراكات التأمين على  المرض ونظام حوادث الشغلّ ويتم اقتطاعها من أجور الموظفين لفائدة ّ الأمراض المهنية المستوجبة على المضمونين/ات الاجتماعيين والتي يتم اقتطاعها من أجورهم لفائدة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي والصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية.

إلا أنَّ  صندوق “الكنام” يعناني منذ سنة 2016  من أزمة سيولة حادة حيث تبلغ ديونه 1.3 مليار دينار في المقابل تبلغ مستحقاته غير المستخلصة 5.5 مليار دينار كما تبينها الرسوم أدناه.

وقد أدى هذا الأمر إلى نقص في تمويل عناصر الإنتاج بالقطاع العمومي، وهو ما ساهم في تراجع دور هذا القطاع.

ويضمن النظام القاعدي، التكفل بمصاريف الخدمات الصحية المسداة بالقطاعين العمومي والخاص اللازمة طبيا للمحافظة على صحة المضمونين/ات الاجتماعيين وذوي الحق منهم، باستثناء المصاريف الناتجة عن حادث شغل أو مرض مهني، التي تبقى خاضعة للتشريع الجاري به العمل في هذا المجال. ويتم تمويل النظام القاعدي للتأمين على المرض عبر  نسبة الاشتراكات المحددة ب %6.75 من الأجر أو الدخل، %2.75 على كاهل الأجير و4 % على كاهل المؤجر و %4 على كاهل المنتفع بجراية.

نسبة يعتبرها بعض الخبراء أنه حان وقت مراجعتها والترفيع فيها حتى وان ستثقل كاهل فئة هامة من المضمونين/ات الاجتماعيين إلا أنها قد تساهم في تمويل صندوق “الكنام” بشكل أفضل، ولربما تساعده على تجاوز عقباته المالية.

بشير أرماني المدير السابق للصندوق الوطني للتأمين على المرض  لمدة خمس سنوات، والرئيس المدير العام الحالي للصيدلية المركزية التونسية في حديثه لنا، يرى أن هذه النسبة تعد جيدة ومعقولة مقارنة بتجارب دول شبيهة، لكن حان الوقت لإعادة النظر فيها.  ويرى أن تنامي تمويل الصندوق للقطاع الخاص يمكن تفسيره بعدة أسباب لعل أهمها التطور المذهل للخدمات الصحية في القطاع الخاص وتوفرها بشكل تنافسي وحتى مغري للمواطنين على حد تعبيره، مقابل خدمات عمومية تخطو بخطى بطيئة نحو التطور ولم تعد قادرة على استيعاب كل المواطنين/ات ولا الإيفاء بحاجاتهم نظرا لتزايد عددهم مقابل نقص الإطار الطبي وقلة التجهيزات وعدة أسباب أخرى على حد تعبيره.

“عندما تأسس الصندوق الوطني للتأمين على المرض في 2004 كانت دراسة جدواه مطابقة لأرض الواقع وأهدافه التي بني من أجلها تحقق منها الكثير في السنوات الأولى، وتعتبر تجربته ناجحة، إلا أننا اليوم نحتاج إلى القيام بمراجعات حقيقية فيما يتعلق بموارد المؤسسة خاصة في مبالغ المساهمات للمضمونين الاجتماعيين”.

ويرى أرماني أنه من الضروري كذلك التعاطي بأكثر شفافية مع ملفات الصندوق، ويعتقد أن وزارة الصحة شريك رئيسي في تطوير خدمات الصندوق، ومراقبة خدمات القطاع العام والخاص على حد السواء.

على الرغم من أن تنامي تمويل “الكنام” للقطاع الخاص على حساب القطاع العام يراه البعض أمرا مبالغا فيه ويجب وضع أسبابه في إطارها، إلا أنه برزَ مؤخرا في صورة سياسة دولة شبه ممنهجة، وذلك من خلال قرار  ترفيع “الكنام” في السقف السنوي الخاص بالمضمونين/ات الاجتماعيين المنخرطين بالمنظومة الخاصة (طبيب العائلة) أو منظومة استرجاع المصاريف بـ 50%، منذ  1 جانفي 2021، والذي تزامن مع الترفيع في التعريفات التعاقدية المعتمدة مع مسدي الخدمات الصحية بالقطاع الخاص.