كشف معلومة


من أجل 10 دنانير فقط.. حين يتحول البلاستيك إلى مصدر رزق هش زمن الكوفيد

21/06/16

في كل أحياء ولاية صفاقس ستعترضك بلا شك تلك السيدة التي تتنقل بين صناديق القمامة و في الأزقة والشوارع تجمع علب البلاستيك التي رماها الناس دون أن يفكروا للحظة أن “فضلاتهم” قد ترهق ظهور مواطنين آخرين.

قد يعتبر البعض هذا النشاط عملا هامشيا لفئة هشة سقطت من حسابات الحكومات والسلط الجهوية، ولم ينتبه إلى حاجياتها وأمثالها  خاصة زمن كوفيد-19. في هذا الملمح ترافق “كشف” إحدى جامعات البلاستيك في رحلة عملها اليومي في أحد الأحياء في مدينة صفاقس.

 بوجه شاحب و بثياب رثة، تسابق (ن .س) أشعة الشمس التي تعلن بداية يوم جديد .عليها أن تصل قبل شاحنة البلدية الى حي شعبي في مدينة صفاقس لتجمع قوارير البلاستيك التي يرميها مستهلكيها يوميا .

(ن .س) أرملة،  ستة وخمسون عاما،  تركها زوجها وحيدة بلا أطفال، بعد أن غدر به مرض السرطان، تعاند الزمن والفقر وقلة ذات اليد. هي واحدة من عدد كبير من النساء والرجال الذين يجمعون علب البلاستيك لبيعها والظفر بمبلغ مالي يقيهم من الخصاصة والفقر. ليس هناك رقم محدد  لعدد النساء اللاتي يجمعن البلاستيك .ولكن المعروف أن عددهن في ازدياد بسبب الأزمة الاقتصادية الخانقة التي حاصرت البلاد منذ مدة وعمقها انتشار  الكوفيد.  تلتحم ن س بصندوق القمامة رغم جسدها النحيل و حرارة شهر جوان الحارقة، بلامبالاة  تبحث بين أكياس الفضلات عن قارورة بلاستيكية ،أصابعها التي لا تخطئ الهدف أبدا تشققت بسبب هذا العمل المتعب. وأنفاسها التي تختبأ وراء كمامة متسخة لا تغيرها أبدا، قد أرهقتها .  تقول لـ”كشف”:

(ن .س) أثناء جمع البلاستيك من حاويات القمامة

أنا أجمع قوارير البلاستيك كل يوم على مدى أكثر من عشرة كيلومترات. يجب أن أصل الى صناديق القمامة قبل شاحنة  البلدية وإلا فإني لن أحصل على شيء. أمارس هذا العمل لأكثر من عامين بعد أن فشلت في الحصول على عمل جاد،  في أي مصنع أو حتى معينة منزلية .”

تسرع “ن.س” خطاها لاحدى  الصناديق التي امتلأت فضلات وسقطت منها على الأرض المتسخة أكياس بلاستيكية رائحتها تصل الى حدود المقهى المجاور .على هذه السيدة ان تجمع اكثر ما يمكن من العلب البلاستيكية لتتمكن من بيعها الى أحد نقاط تجميع البلاستيك .

تقول “ن.س” إن ثمن كيلوغرام من القوارير يساوي 500 مليم، وهو ما يعني أن عليها جمع اكثر من 2000 قارورة لتحصل على أجرة يومية تقدر ب 10 دنانير. وهذا المبلغ لا يكفيها للعيش مع أم مقعدة في بيت صغير مستغل على وجه الكراء.

ما تغنمه هذه السيدة لا يصل إلى قيمة الأجر الأدنى المضمون في تونس إضافة إلى كونها لا تحصل على تغطية اجتماعية ولا على مساعدات أو منحة العائلات المعوزة .                                     

في زمن كوفيد-19 يصبح عمل “ن.س” محفوفا بالمخاطر .هي لا تستعمل وسائل للحماية و لا تكترث كثيرا من الكمامات المستعملة التي يرميها الناس بلا مبالاة . لم تسجل ” ن.س” في “evax.tn” المنصة  المخصصة للتلقيح ضد الكوفيد. هي تعتقد أن الأمر لايعنيها وان الفقر والجوع هما ما يخيفتها .تقول حين سألناها عن ضرورة التلقيح ضد كورونا

 ” أنا لم يقتلني البرد و مرض السكري و معها الفقر فكيف أخشى الكورونا؟”

يرمي التونسيون سنويا كميات كبيرة  من الفضلات البلاستيكية و حسب الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات فإن مجال رسكلة البلاستيك يخلق بين 15 و18 ألف فرصة عمل رغم أنه لا يتم تجميع سوى 10 بالمائة من حجم هذه الفضلات.

 لم تتلق ” ن.س” و كثير من النساء والرجال الذين يجمعون فضلات البلاستيك أي إعانة اجتماعية او إحاطة أو اهتمام في فترة الكوفيد وفي فترة الحجر الصحي بل إن الحاجة دفعت الكثير منهم إلى العمل في فترة الحجر الصحي إذ لا خيار لديهم إلا العمل .

زهير بن جنات دكتور في جامعة صفاقس وباحث في علم الاجتماع، يعتبر جامعي البلاستيك  ضحايا حيف منظومة اجتماعية تقوم على  التمييز ضد الفئات الهشة ، خاصة وأن أغلبهن من النساء.

“هن في الغالب كبار في السن، مطلقات او أرامل و يعانين  مشاكل اجتماعية وعائلية  ولهن  التزامات مادية مع عائلاتهن، لكن للأسف هن ودون سند .

يعيب  بن جنات على المنظومة الاقتصادية التي لا تؤمن بدورهن الاجتماعي، كما أن غياب مفهوم الاقتصاد التضامني والاجتماعي في جهة صفاقس  حرم هذه الفئة من النساء من الإدماج في المنظومة الاقتصادية.

“المنظومة الاقتصادية والاجتماعية رفضت هذه الفئة.و حتى في فترة الكوفيد لم تجد اي مساعدة او احاطة وتواصل هذا الوضع الى حد الان”.

الإدارة الجهوية للصحة بصفاقس تؤكد أن التسجيل في منظومة التلقيح هو الطريقة الوحيدة التي تخول لكل المواطنين التمتع بالتلقيح خاصة مع تواصل ارتفاع نسبة المنتفعين بالتلقيح دون استثناء وأن هذه الفئة معنية مثل غيرها بضرورة التسجيل في المنصة الرقمية المخصصة للتلقيح ضد كورونا.

ظاهرة النساء ” جامعات بقايا فضلات البلاستيك ” في تونس  يطرحها  بن جنات على أنهن ” يجمعن فضلات التونسيين  ولا يلتجئن إلى التسول مثلا و يقدمن معنى آخر لمفهوم قيمة العمل “.و يؤكد محدثنا  أن هذه الفئة تمثل طاقة شغلية لم تنصفها المنظومة الاقتصادية حين عجزت على احتوائهن ومارست عليهن نوعا من الحيف الاقتصادي  والتمييز والانتقاء في غياب كلي للبعد التضامني في الشغل .

وفي غياب  أي رؤية في علاقة بالبعد الاقتصادي والاجتماعي لهذه الفئات تتعمق متاعب “ن.س” وغيرها من النساء  في زمن الكوفيد بعد أن اضطررن إلى العمل دون وسائل حماية و في غياب تغطية صحية او تأمين اجتماعي إضافة إلى  تعامل غير مسؤول من المواطن في علاقة بطرق رمي الفضلات الطبية مثل الكمامات و الحقن المستعملة  التي تمثل خطرا على “من يجمع الفضلات البلاستيكية ” وعلى فئة ” البرباشة” بصفة عامة.

 أنهت “ن.س” يومها بشكل سيء. إذ لم تتمكن من جمع كمية كافية من علب البلاستيك و ستضطر إلى الخروج باكرا يوم الغد  و التجول في أماكن أخرى لتتمكن من تعويض خسارة اليوم . لم تكترث كثيرا لإلحاحنا بأن تسارع بالتلقيح ولا بضرورة استعمال قفازات تحمي يديها و كمامة جديدة تقيها من خطر الكوفيد .اكتفت بالنظر إلى أكياسها المتهرئة التي لم تمتلئ بشكل جيد ثم غابت في أحد الأحياء الشعبية في صفاقس،  على إيقاع صدى سيارات الإسعاف  وعلى وقع أوجاعها التي عمقها الكوفيد.


تم إخفاء الهوية الحقيقية للمتحدثة بطلب منها، حماية لمعطياتها الشخصية وسلامتها النفسية

بقلم زهير بن علي

إشراف عام خولة بوكريم

أنتج هذا العمل بدعم من منظمة « صحافيون من أجل حقوق الإنسان » الشؤون الدولية/كندا