21/07/02
وسط ارتفاع غير مسبوق في عدد المصابين بكوفيد-19 بتونس بلغت ذروتها بتسجيل حصيلة قياسية بـما يقارب 7 آلاف إصابة مسجلة بتاريخ 30 جوان 2021، تتصاعد طلبات شعبية ومن المجتمع المدني بضرورة اللجوء إلى تفعيل قرار تسخير المصحات الخاصة لاستقبال المرضى الذين يحتاجون إلى عناية طبية.
محمد الذي ينحدر من أصول فلسطينية، سارع بنقل زوجته المصابة بفيروس كورونا إلى مصحة خاصة في العاصمة بعد أن بدأت تشعر بصعوبات في التنفس.
لم يكن محمد يملك خيارا آخر لأنه غالبا ما كان يواجه عوائق لا حصر لها كلما التجأ إلى قطاع الصحة العمومية. غير أنه هذه المرة أصيب بصدمة لأن المصحة طلبت ضمانا ماليا بقيمة 30 الف دينار قبل التعهد بالوضع الصحي لزوجته. وهو بالطبع لا يملك هذا المبلغ ولا يستطيع تأمينه على وجه السرعة.
اضطر محمد للتوجه على الفور الى المستشفى العمومي “شارل نيكول” وهناك حصل بشق الأنفس وبعد الاستجداء ومحاولات مضنية، على كرسي بدل سرير ليؤمن الاكسيجين لزوجته.
روى محمد لكشف ميديا “الوضع كارثي في المستشفى والذي لا يقل خطورة عما نسمعه ونشاهده في الجهات الداخلية.
“كنت شاهدا على وفاة إمراه حامل. الأطباء يعانون من نقص شديد في التجهيزات حتى أنهم لا يملكون مخزونا للقطن الصحي من أجل الحقنات. طلبوا مني أن اشتري ما يكفي من مناديل ورقية”.
وفي الوقت الذي أكَّد فيه رئيس الحكومة هشام المشيشي استعداد الدولة للتكفل بمصاريف علاج المرضى غير الميسورين نظير إقامتهم في المصحات الخاصة، تفاجأ الكثير من المواطنين بمبالغ خيالية يتوجب عليهم سدادها من أجل التمتع بخدمات هذه المصحات.
إذ يتناقض هذا مع ما صرح به المشيشي، خلال حوار تلفزي في أكتوبر 2020، من أن الحكومة لمست “استعدادا كبيرا من غرفة المصحات الخاصة لمساندة جهود الدولة”.
كما أكد أن الدولة ستقف بالمرصاد لمن اعتبرهم أقلية تستغل الأوضاع لمزيد الاستثراء، مضيفا “عندما يتعلق الأمر بصحة المواطن غير القادر ماديا والذي قد يتعرض للاستغلال سيجد الدولة إلى جانبه، حيث يمكنها أن تلجا إلى اتخاذ أقصى الإجراءات مثل قرار التسخير”.
وتابع المشيشي بشكل واضح:
“المريض الذي لا يجد مكانا بأحد المستشفيات العمومية عليه بالذهاب إلى المصحات الخاصة وستتكفل الدولة بالمصاريف.. وكل من يرفض الانخراط في هذا المجهود سيواجه أمرا بالتسخير وقد يتعرض لإجراءات أكثر شدة من الدولة”.
كانت أسرة الشاب هيثم، ايضا من بين اللذين أخذوا رواية الحكومة على محمل الجد، وقد توجه عمه المصاب بالفيروس إلى إحدى المصحات الخاصة، بولاية صفاقس، أين خضع فعلا للعلاج.
وبعد اقتناعه بتحسن صحته، غادر المصحة ليعود إليها مرة ثانية بعد تعكر حالته مقابل دفع مبلغ 25 ألف دينار وهو ما لم تقدر العائلة على تأمينه في ظرف وجيز مما دفعهم لنقله إلى مستشفى صفاقس العمومي أين لفظ أنفاسه الأخيرة.
الطبيب في المصحة الخاصة كان ممسكا بالملف الطبي لعمي وكأنه طفل متشبث بلعبة لا يرغب في إعطائها لأحد. اتصل أمامنا بمصحة خاصة مجاورة حينما عرف رغبتنا في المغادرة، وأبلغهم بأن عمي مدان بدفع 50 ألف دينار لمصحته. ويصرخ قائلا “هذا مريضنا نحن”.
عند التوجه لمستشفى صفاقس يروى هيثم كيف انتظر عمه في سيارة الإسعاف الخاصة وهو يصارع الموت من السابعة صباحا وحتى 12 ظهرا، في منطقة “الفرز”.
“بعد طول انتظار وعلى الرغم من صدور تحليل سلبي له من كوفيد-19، حصل جدال بين أطباء المستشفى، ورفضوا إدخاله متحججين بأنه كان مصابا بالفيروس، إلى أن فرغت قارورة الأكسجين التي استأجرتها عائلة المريض، وتوفى أمام أعين أبناءه في سيارة الإسعاف.
يؤكد هيثم أن زوجة عمه تركت بالمصحة الخاصة شيكات حتى تقبل الإدارة إدخاله. ويشر إلى حالة الرعب التي عاشتها زوجة عمه أثناء مراسم الدفن خوفا من أن يتم إيداع الشيك في رصيدها وهي التي لا تملك فيه شيئا.
“يوم الدفن كانت المسكينة مرعوبة من أن يتم القبض عليها وايداعها في السجن بسبب الشيكان دون رصيد التي أعطتها لإدارة المصحة الخاصة. موت عمي بتلك الطريقة المهينة شكل صدمة كبرى لأولاده.
يقول محدثنا أن أبناء عمه اليوم مشتتون ابنته الكبرى تعاني من حالة نفسية سيئة منذ فراق والدها، وابنه التلميذ انقطع عن الدراسة، ولم تتفهم إدارة المدرسة الظرف الخاص الذي مر به الطفل بعد فقدان والده، ومعايشة مرضه إلى حد آخر لحظة في حياته.
وعلى الرغم من تصريحات رئيس الحكومة هشام المشيشي القائلة بالتكفل بمصاريف أي مواطن يعجز عن دقعها في المستشفيات الخاصة، لا تزال إلى حد كتابة المقال أسرة عم هيثم مطالبة بسداد دين يتحاوز 50 ألف دينار للمصحة الخاصة.
وبينما يتعاظم السخط إزاء التعريفات المشطة والخيالية للمصحات في تونس في ذروة الوباء المهدد لحياة الآلاف من التونسيين، نفى بوبكر زخامة، رئيس الغرفة النقابية الوطنية لأصحاب المصحات الخاصة، في تصريح إذاعي، تفعيل هذا الإجراء (التسخير)على أرض الواقع.
وقال الزخامة إن “عملية توجيه مرضى الكوفيد إلى المصحات الخاصة تكون وفق شروط محددة وإلى غاية اليوم لم يقع الحسم في ذلك ولم يتم المرور إلى مرحلة التطبيق”.
وفسر بوبكر زخامة أن تطبيق هذا الإجراء يتطلب أولا استيفاء المستشفيات العمومية لطاقة استيعابها للمرضى كما يستوجب من الدولة التكفل بمصاريف إقامة المصابين داخل المصحات.
ولفت إلى وجود صعوبة في إقناع المرضى الذين استقبلتهم العديد من المصحات الخاصة بعدم توفر مراسلة رسمية تثبت فيها الدولة بالتكفل بمصاريف العلاج، وفق تعبيره.
حاولنا الاتصال بوزارة الصحة للاستفسار عن قرار تسخير المصحات الخاصة وهل هناك منشور صادر في هذا الصدد، حيث أكد مصدر مطلع صلبها لـ “كشف ميديا” أن الوزارة ليس لديها أي معلومة بخصوص تسخير المصحات الخاصة، وأن هذا الأمر أصدرته رئاسة الحكومة دون تنسيق مسبق معها، أو إعلامها بآليات تنفيذه.
من جهته أكد مصدر مطلع برئاسة الحكومة، لـ”كشف ميديا” تحفظ عن ذكر إسمه بأنه لم يصدر قرار إلى حد الأن بتفعيل إجراء تسخير المصحات الخاصة بشكل رسمي
وينص الفصل الرابع من الأمر عدد 50 لسنة 1978 المنظم لحالة الطوارئ في فقرته الخامسة، “على اللجوء إلى تسخير الأشخاص والمكاسب الضرورية لحسن سير المصالح العمومية والنشاطات ذات المصلحة الحيوية بالنسبة للأمة”. ويحدد الفصل 12 من “أن الوزراء وكتاب الدولة مكلفون كل فيما يخصه بتنفيذ هذا الأمر”. كما يشير الأمر الى عقوبات سجنية ومالية ضد غير الممتثلين لإجراءات التسخير.
يذكر أن رئيس الحكومة هشام المشيشي قد لجأ الى التسخير، شهر أفريل الماضي، في جميع مراكز الفحص الفني التابعة للوكالة الفنية للنقل البري، نتيجة الإضراب الفجئي لأعوانها وخوفا من تعطيل شؤون المواطنين.
ويقضي الأمر بتسخير عدد من أعوان الوكالة وإطاراتها لتأمين الحد الأدنى من النشاط بجميع مصالحها، والتمديد في صلوحية شهادة الفحص الفني.
وأصدر أيضا رئيس الحكومة الأسبق، يوسف الشاهد، أمرا بتسخير عدد من الأعوان التابعين لبعض الوزارات والمؤسسات والمنشآت العمومية بمناسبة الإضراب العام الذي دعا له الاتحاد العام التونسي للشغل في جانفي 2019.
ولجأ كذلك والي تونس في 2019 إلى التسخير بعد اضرابات أعوان النظافة خوفا من مخاطر صحية وبيئية.
وأمر الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة الجيش بقيادة الحافلات لتأمين خدمات النقل خلال الاضراب العام الذي دعا اليه الاتحاد وشهد صدامات كبرى يوم 26 جانفي 1978.
ولا يزال التونسيون ينتظرون اليوم تفعيل قرار التسخير الأهم في أخطر أزمة صحية تواجهها البلاد على الاطلاق منذ دولة الاستقلال وتهدد وجودهم.
أنجز هذا العمل بدعم من منظمة « صحافيون من أجل حقوق الإنسان » الشؤون الدولية/كندا