21/07/18
اعتمد الإنسان منذ القدم أسلوب “مناعة القطيع” للحدّ من انتشار الجوائح والأوبئة ودفع في ذلك تكلفة باهظة من الأرواح البشرية. غياب الدواء في ذلك الوقت لم يترك للبشر خيارا غير العمل على تحقيق المناعة الجماعية التي تفرض قانون الطبيعة بالبقاء للأقوى.
تعرف منظمة الصحة العالمية مناعة القطيع والتي تُعرف أيضاً باسم “مناعة السٌّكان” بأنها الحماية غير المباشرة من مرض معد والتي تتحقق عندما تكتسب مجموعة سكانية ما المناعة من ذلك المرض إما عن طريق اللقاح أو الإصابة السابقة بالعدوى.
تقول الدكتورة هيلينا غازيلكا، عبر حساب المجموعة الطبية الأميركية “مايو كلينك” على اليوتيوب:
“تتحقق مناعة القطيع عندما يمتلكٌ عدد كاف من السّكان مناعة ضدَّ مرض معد مثل البكتيريا أو أحد الفيروسات. هذه المناعة تساعد في السيطرة على انتقال المرض من شخص لآخر وتجعله أقل انتشارا”.
ومع ظهور الأوبئة الجديدة يعود الحديث مرة أخرى عن المناعة الجماعية وهو ما ذهبت إليه بعض الدول الأوروبية عند اكتشاف حالات إصابة بفيروس كوفيد 19 المستجد. لكن يختلف الأمر هذه المرة بسبب وجود خيارات أخرى للنجاة من تفشي الوباء الجديد بدل المناعة الجماعية “الطبيعية” مثل اعتماد الحجر الصحي الشامل والتباعد الاجتماعي وتكثيف اللقاحات.
وتدعم منظمة الصحة تحقيق “مناعة القطيع” عن طريق التطعيم وليس بالسماح للمرض بالانتشار في أوساط أي شريحة سكانية، لما قد ينتج عن ذلك من سقوط أعداد كبيرة من المرضى والوفيات.
وتسعى معظم الدول اليوم إلى تسريع وتيرة التلاقيح لتحقيق المناعة الجماعية خشية انتشار أكبر للعدوى في ظل ظهور السلالات المتحورة الجديدة في كل مرة.
وتخطط تونس بدورها لتلقيح حوالي خمسة ملايين شخص بحلول الخريف القادم في محاولة لوقف نزيف الوفيات والإصابات المتزايدة، وهو هدف يتوقف على مدى توفر الإمدادات من اللقاحات.
وصرّح مدير معهد باستور الدكتور الهاشمي الوزير أنه “بتلقيح خمسة ملايين شخص يكون أكثر من 70 بالمئة من التونسيين (المؤهلين للتلقيح) قد تمكنوا من إجراء التلقيح بنهاية شهر سبتمبر أو منتصف أكتوبر. وبذلك يمكن القول إننا تمكنا من السيطرة على انتشار الوباء إذا لم يظهر متحور جديد في الأثناء”.
ويفسر المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غبريسيس أن مناعة القطيع، أو المناعة الجماعية، مفهوم يُستخدم في مجال التطعيم، ويتيح حماية السكان من فيروس ما إذا تلقت نسبة معينة من الأشخاص التطعيم.
فعلى سبيل المثال، لتحقيق المناعة الجماعية ضد الحصبة، لابد من تطعيم حوالي 95 بالمئة من السكان. وستتمتع نسبة 5 بالمئة المتبقية من السكان بالحماية بفعل عدم انتشار الحصبة في صفوف الأشخاص الذين يتلقون التطعيم.
جدوى مناعة القطيع
أشار تقرير نشرته محطة بي بي سي إلى أن تحقيق مناعة القطيع في مجموعة سكانية يتطلب اكتساب نسبة معينة من السكان مناعة ضد المرض من خلال إنتاج أجسام مضادة. لكن هذه النسبة تعتمد على مؤشر التكاثر أي عدد الأشخاص الذين قد ينقل لهم مريض واحد العدوى. وكلما ارتفع هذا الرقم، زاد عدد الأشخاص الذين ينبغي أن تكون لديهم أجسام مضادة حتى تتحقق مناعة القطيع.
وبما أن مؤشر تكاثر كوفيد-19 يختلف حول العالم باختلاف السلوكيات ومستوى المناعة وسط المجموعات السكانية، فمن المستبعد أن يكون هناك نسبة محددة يعول عليها لعدد الأشخاص الذين يتعين أن تكون لديهم أجسام مضادة للفيروس حتى تتحقق مناعة القطيع.
وأفاد التقرير بأنه إذا كانت مناعة القطيع تتطلب إصابة 85 في المئة من السكان بكوفيد-19، فهذا يعني أنها لن تحمي سوى نسبة ضئيلة من السكان الذين لم يصابوا بالفعل بالفيروس، وقد تصبح معها وقاية الفئات الأكثر عرضة للإصابة بمضاعفات، غير مجدية.
وقد يصاب الناس بكوفيد-19 أكثر من مرة، وينقلون العدوى للآخرين حتى من دون أن تظهر عليهم أعراض في المرة الثانية، كما هو الحال مع بعض فيروسات نزلة البرد الموسمية. ومن ثم قد تصبح مناعة القطيع مستحيلة.
يقول طبيب المناعة الألماني أوجور شاهين إن الاتحاد الأوروبي قد يشهد مناعة للقطيع بحلول شهر أوت القادم، نتيجة تكثيف الدول لبرامج التطعيم الخاصة بها.
ويرى الخبراء أن مستوى تحصين السكان بنسبة تفوق 70 ٪ سيعطل بشكل كبير انتقال الفيروس بين السكان.
مناعة القطيع هل نجحت في دول أخرى؟
أشارت منظمة الصحة العالمية إلى أنه لم يسبق أبدًا في تاريخ الصحة العامة أن استخدمت مناعة القطيع كاستراتيجية في مقاومة الجوائح لكنها ظلت تعتمد لعصور طويلة كحل اضطراري لوقف انتشار الفيروسات القاتلة.
كما ظهرت قديما بعض الإجراءات المبتكرة والبسيطة في منع انتقال العدوى من شخص إلى آخر، مثل استخدام العصي الطويلة خلال القرن السادس عشر عند التجوال في الشوارع لضمان التباعد الجسدي كما بدأ في تلك الفترة فرض قيود على التنقل والسماح لشخص واحد بشراء احتياجات الأسرة.
ويرى علماء الأوبئة المناصرون لنظرية المناعة الجماعية أن الطريقة الأفضل لمكافحة الوباء هي:
“السماح للأشخاص الأٌقل عرضة للموت جراء الإصابة بالمرض بأن يعيشوا حياتهم كالمعتاد ويكتسبوا مناعة من الفيروس بعد الإصابة الطبيعية بالعدوى، وتوفير الحماية الكافية للأشخاص الأكثر عرضة للموت من المرض”.
جرَّبت السويد الطريقة ذاتها في تعاملها مع انتشار الكوفيد 19 داخل أراضيها لكن تزايد الإصابات فيها أكد فشل التجربة. وبدلا من فرض إغلاق صارم في مارس 2020 كما فعلت معظم الدول الأوروبية والدول الاسكندنافية، كانت استراتيجية السويد في التعامل مع الوباء تعتمد على المسؤولية الفردية للناس للحد من انتشار المرض.
بريطانيا بدورها فشلت في حصر العدوى عبر أسلوب المناعة الجماعية. فقد قال المؤلف الرئيسي للبحث البروفيسور ديفيد غولدسميث، وفق الموقع الرسمي للجمعية الملكية للطب، “من الواضح أن معدلات العدوى الفيروسية والاستشفاء والوفيات (لكل مليون من السكان) أعلى بكثير من تلك التي شوهدت في الدول الاسكندنافية المجاورة “.
أما في تونس يوضح الطبيب نزار العذاري رئيس اللجنة الطبية في مستشفى شارل نيكول لـ’كشف ميديا” أن اتباع هذه الاستراتيجية في تونس تتضمن مخاطرة ذات تكلفة باهظة لا يمكن القبول بها.
ويضيف الطبيب:
“كان هذا ممكنا حينما كان الفيروس في المراحل الأولى ولكن هذا غير متاح الآن مع تزايد السلالات المتحورة الأكثر خطورة حتى على صغار السن لأن هذا الخيار سيقضي على عدد كبير جدا من المرضى وهذا لن يقبله أحد”.
وبدل مناعة القطيع المفتعلة يقترح الطبيب العذاري توخي حجر صحي شامل لا يقل ستة أسابيع وردع المخالفين للبروتوكول الصحي وتوسيع عمليات التقصي للفيروس وتوفير التحاليل السريع وجعلها متاحة للجميع. وتابع الطبيب “هذا الحل يجعلنا على دراية في وقت مبكر بالإصابات ويخفف الضغط على المستشفيات”.
أنتج هذا العمل بدعم من منظمة « صحافيون من أجل حقوق الإنسان » الشؤون الدولية/كندا