21/07/19
هكَذا تبدو الصورة في قسم الأنف والأذن والحنجرة ،التقطناها خلال شهر جوان من مستشفى الرابطة بتونس العاصمة، ملفات على أهميتها مرمية دون حفظ أو رقمنة على قارعة الطريق، ولربمّا هي فريسة سهلة للفئران حتى تمحي أي أثر للأسماء والأطباء وحتى الأدوية وكل ما تتضمنه تلك الوثائق من معلومات، سيما ما يؤكده الرقم التسلسلي الظاهر فيها، على أنها ترجع لسنة 2017.
رقمنة التصرف في المؤسسات الصحية العمومية مشروع ليس وليد السنوات الأخيرة بل بدأ منذ فترة طويلة تعود إلى ما قبل 2010. وذلك من أجل تدعيم البنية التحتية للنظم الإعلامية بالوزارة ورقمنة الخطوط الأمامية وتقوية الشبكات، ولعلّ أهم مشروع هو برنامج “RNSNG” لتقوية الانترنت ومضاعفة معدل استقبال الشبكة خاصة في المناطق الداخلية خارج العاصمة. وقد خص المشروع 217 موقعا تابعا لوزارة الصحة، تم تقوية معدل اتصالهم.
كما عملت وزارة الصحة على تركيز برنامج لتدعيم السلامة المعلوماتية، في مؤسسات الصحة العمومية، ويتكون هذا المشروع من جزئين اثنين، جزء أول يتمثل في حملات تحسيسية ودورات تكوينية للإطار الطبي من أطباء وممرضين/ات والوعي بأهمية حماية المعلومات، وفق ما أفادت به نسرين لشكر عن مركز الإعلامية لوزارة الصحة. وجزء ثاني يتمحور حول تطوير أسطول الإعلامية بهياكل الصحة العمومية.
“تطوير أسطول الإعلامية كان من بين أهداف وزارة الصحة، وتزويد كل المؤسسات الصحة العمومية بالحواسيب وآلات الطباعة، كل سنة نقوم بفتح طلبات عروض لمزيد دعم البنية التحتية للمؤسسات.”
وعلى الرغم من أن وزارة الصحة وضعت صلب أهدافها تأثيث المستشفيات العمومية بحواسيب تسهل عمل الإطار الطبي، إلا أن المستشفى الجهوي بمعتمدية جلمة من ولاية سيدي بوزيد لم تهبّ عليه إلى حد اللحظة رياح الرقمنة، ويفتقر إلى أبسط التجهيزات الطبية، كما أن الأرشيف الخاص بملفات قسم النساء والتوليد غير محمي وغير مؤمن.
مصدر طبي (امتنع عن الإفصاح عن هويته لحمايته) من قسم التوليد بمستشفى الطاهر بوزريبة جلمة يؤكد، أن عدم حفظ ملفات المرضى بطريقة آمنة، جعل من الصعب متابعة بعضها، فالعديد من النساء اللواتي وضعن في نفس المستشفى، أو جئن لأجل استشارات طبية لحالاتهن قبل الولادة، لا يعدن في مرات لاحقة بسبب ضياع بعض الملفات من جهة وتردي الخدمة الصحية من جهة أخرى.
وعن افتقار المستشفيات الجهوية، بعديد التجهيزات وعلى وجه الخصوص الحواسيب، ترجع ذلك نسرين لشكر للإجراءات المتبعة وطولها في إطار مسار العمل بالصفقات العمومية، مشيرة إلى أنه تم تزويد المستشفيات الجهوية في إطار المشروع “تدعيم أسطول الإعلامية في مؤسسات الصحة العمومية” بــ2700 حاسوب و800 آلة طباعة.
أميمة ڨرعوش، تكوينها الأصلي ممرضة، لكنها تعمل حاليا في قسم الأرشيف بقسم جراحة الكلى والمجاري البولية بمستشفى شارل نيكول، تؤكد أنه إلى حد الآن لا تزال الملفات الطبية ورقية وغير مرقمنة، على الرغم من تواتر الحديث عن رقمنة الملفات الطبية من قبل إدارة المستشفى من وقت إلى آخر.
“منذ سنة 2015 تاريخ دخولي لمستشفى شارل نيكول ونحن نسمع على مشروع “رقمنة الملف الطبي” في حين الأمر لم يتحقق بعد على أرض الواقع، علما وأنني كنت قد عملت في مصحات خاصة، تتميز برقمنة الملفات الطبية وتنظيم محكم للمواعيد ولكل أشكال المعلومة الطبية، ومتقدمة كثيرا على مؤسسات الصحة العمومية في هذا المجال”
تؤكد محدثتنا أن المريض الذي يدخل إلى قسم جراحة الكلى والمجاري البولية بمستشفى شارل نيكول يكون ملفه في يده، وليس مرقمنا، وتشير إلى وجود عشرات الحالات التي فقد فيها المرضى ملفاتهم. وهو ما تراه سببا كافيا لإضاعة وقت المريض والعاملين في المستشفى على حد السواء، في البحث بين أقسام مختلفة، خاصة بعد تتشتت المعلومة الطبية، بين طبيب وآخر. لأن الأطباء المباشرين/ات لحالة المريض عادة ما يتغيرون ولا يكون نفس الطبيب/ة هو المتابع/ة لنفس الحالة.
من حسن الحظ أنني ووالدتي من مهنيي الصحة، وإلا كنا قد جابهنا نفس المعضلة التي يعاني منها مرضانا. والدتي ضاع ملفها عندما أجرت عملية على كتفها في مستشفى عمومي. متابعتها لحالتها الصحية في القطاع الخاص أسعف الموقف لأن عديد الوثائق المتعلقة بملفها الطبي كانت مرقمنة في قاعدة بيانات مستشفى خاص.
قسم الجراحة في مستشفى عبد الرحمان مامي، ليس أوفر حظا من بقية الأقسام التي ذكرناها، حيث يؤكد مصدر طبي من المستشفى، امتنع عن الإفصاح عن هويته حماية لمعطياته الشخصية، أن الملفات الطبية كانت خلال الفترة الماضية مرقمنة، لكن بمجرد تغيير رئيس القسم، وحصول عطل في منظومة الإعلامية للقسم، عاد موظفوا القسم للعمل “بالورقة والقلم” على حد تعبيره. كما يؤكد ذات المصدر أن أكثر عمليات ضياع الملفات الطبية تحصل في قسم الاستعجالي بالمستشفى.
تؤكد نسرين لشكر عن قسم الإعلامية بوزارة الصحة أن 86 بالمائة من المخابر في المستشفيات الجامعية التونسية تم رقمنتها مقابل 54 مخبر في المستشفيات الجهوية والمحلية، والبالغ عددها 145 وفق إحصائية لوزارة الصحة.
أما الوصفات الطبية الإلكترونية فقد تم رقمنة 57 بالمائة من الاقسام الموجودة بالمستشفيات الجامعية و 6 بالمئة فقط من المستشفى الجهوية.
وعلى الرغم من شكاوى المواطنين بخصوص طول الانتظار في المستشفيات العمومية، تعتبر محدثتنا الانطلاق في العمل عبر منظومة المواعيد عن بعد أمرا هاما يستحق التنويه، وتؤكد أن 50 بالمائة من أقسام المستشفيات الجامعية بدأت تستخدم هذه المنظومة. وتشير في هذا الصدد إلى مستشفيات شارل نيكول والحبيب ثامر بالعاصمة وفرحات حشاد سوسة.
حوكمة متعثرة
وعلى الرغم من أهمية رقمنة خدمات المخابر والتصوير بالأشعة و الوصفة الطبية إلا أن هذا المسار لم يكتمل وفق الأرقام المذكورة سلفا، إذ أن رقمنة هذه الخدمات ستؤدي ضرورة الى رقمنة الملف الطبي للمرضى وكان من المفترض الإنتهاء من رقمنة المستشفيات الجهوية سنة 2020. إلا أن هذا المسار لم يكتمل.
حيث الوزارة انطلقت في تنفيذ استراتيجية الرقمنة وفق رزنامة زمنية مضبوطة سنة 2019 بإشراف الدكتور رؤوف الشريف، وزير الصحة الأسبق، والطبيب بمستشفى الحبيب ثامر. والذي يؤكد في حديثه لنا على أنه أثناء توليه الحقيبة الوزارية تمم رقمنة 20 مستشفى جامعي فقط.
عندما كنت على رأس الوزارة كان لدي مشروع عملت عليه وهو رقمنة كل 22 مؤسسات جامعية استشفائية في تونس على 3 مراحل، إلا أن المرحلة الثالثة تعثرت.
يرى د. الشريف أنه كان من الممكن انجاز هذا المشروع، وكان هناك كفاءات تونسية قادرة على المواصلة فيه والنسج على منوال مستشفى الحبيب ثامر الذي بدأ طريق الرقمنة منذ 2010.
في مستشفى الحبيب ثامر بدأنا من الصفر، ولم نستورد منفذي مشروع من الخارج، بل اعتمدنا حينها على الكفاءات التونسية والعاملة في المستشفى. لو كنا اليوم أتممنا رقمنة 22 مستشفى جامعي لكانت عملية رقمنة باقي المستشفيات الجهوية أسهل، لأننا سنكون قد أتممنا الجزء الأصعب.
يرى محدثنا أن مشروع الرقمنة مرتبط أساسا بالخيارات والإدارية وعلى الحوكمة، كما أن أزمة الكوفيد تشتت في اعتقاده جهود الوزارة حولت تركيزها نحو محاربة الوباء.
ويشير إلى أنه لو تمت رقمنة كل المستشفيات، لكانت ستسهل عملية المراقبة على مسالك الكوفيد-19، ويصبح للوزارة قاعدة بيانات واضحة عن المرضى المتكفل بهم، خاصة في الجهات. ويأسف د. الشريف إلى أن المنظومة الرقمية الحالية الخاصة بالتسجيل في تلقيح كوفيد-19، هي ليست خاصة بالمستشفيات، بل هي مأخوذة عن الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، في حين كان بالإمكان إنجاز قاعدة بيانات رقمية خاصة بالمستشفيات، كانت ستساعد كثيرا في الحملة الوطنية للتلقيح ضد كوفيد-19.
لا أعتقد أن الأمر متعلق بنقص في الموارد المالية والبشرية بقدر ماهي حوكمة وسوء تصرف بدليل أن هناك مستشفيات لم تتحصل على نصيبها من ميزانيات 2020 إلى حد اللحظة.
تبقى رقمنة المستشفيات والتصرف في الصحة العمومية من أهم الخطوات التي ستوفر أمولا على المجموعة الوطنية، كما ستساهم في تكثيف الرقابة على مسالك الأدوية، وحفظ المعلومة الطبية وعدم تشتيتها في علاقة بالملف الطبي للمرضى، و الارتقاء بجودة الخدمات الطبية والضغط على التكلفة عموما. ولعل ما حققه المستشفى الجامعي الحبيب ثامر، من تقليص تكلفة بنسبة 27 بالمائة سنة 2015 بعد إتمام عملية الرقمنة خير مثال على ذلك.