21/07/28
قراءة في خطاب الغنوشي: من “الجيش الوطني حامي الوطن والدين.. إلى أيها الجنود والضباط”
إنها الثانية بعد منتصف ليلة 25 جويلية 2021، وقفَ رئيس حركة النهضة ورئيس مجلس نواب الشعب المجمّد من مهامه راشد الغنوشي، أمام بوابة البرلمان مرفقا بنائبته سميرة الشواشي وبنائبة أخرى عن كتلته، كان يهم بالدخول، زاعما بأنه يرغب في عقد اجتماع في ذلك الوقت. وعلى الرغم من ارتدائه الكمامة بدت ملامح الارتباك على وجهه، بل أكثر من ذلك، إنه الذهول جليا على الملامح، وردةّ فعل غير المصدّق لما تشاهده عيناه، حتى قال بنبرة المستجدي:
أنا رئيس المجلس راشد الغنوشي، أقفٌ أمام المؤسسة التي أرئسها عاجزا عن دخولها..و ممنوعا من دخولها..
كيف خاطب الغنوشي “حماة الوطن”؟
في اللحظة التي نقلت فيها شاشة الجزيرة بثاً مباشرا لما يحدث أمام البرلمان، و وُجهت الأضواء والميكروفونات نحو راشد الغنوشي لربما كانت وقتها بعض من الثقة تلٌف الرجل، وتخيل له بأنه قادر على مغازلة عناصر الجيش الوطني، و إقناعهم بالسماح له بالدخول، وفتح بوابة المؤسسة التي يرأسها. إذ بدا جليا على الغنوشي أنه واثق من أن ذلك الحديد المسيج، وتلك المدرّعة التي خرجت فجأة من ثكناتها لن يمنعوه من الوصول إلى “كرسيه” . كرسيّ، سار طويلا من أجل الجلوس عليه، وقدَّم الكثير من التنازلات حتى يكون له وحده، لا شريك معه فيه.
جيشنا صبيحة الثورة كان هو من دافع عن الثورة وحماها ..الجيش الوطني حامي حمى الوطن والدين
كان الخطاب في البداية رصيناً بشكل كبير، يبدد كل الشكوك القديمة التي كانت تحوم حول الرجل بسبب خطابات سابقة، ولعل َّأبرزها خلال شريط مسجل نادر تم تداوله في أكتوبر 2012، صرّح فيه بأن المؤسستين العسكرية والأمنية في تونس “غير مضمونتين” محذرا السلفيين في تونس من أن المكاسب التي تحققت لهم منذ وصول النهضة إلى الحكم “قابلة للتراجع” مثلما حصل مع إسلاميي الجزائر خلال تسعينيات القرن الماضي.
“نون -نحنُ”، و”حامي حمى الوطن والدين” كلها دلالات على أن الغنوشي استوعب للحظة ما، بأنه يقف أمام مؤسسة لا تطاولها يداه، وغير مطوَّعة من حزبه، وهو نفسه غير قادر على أن يقودها أو يأمرها كما تعوّد دائما طيلة عشر سنوات، بشكل مباشر أو غير مباشر. لحظة خنوع واعتقاد بأن ضم الجيش إلى “مجموعة الممتلكات النهضاوية” قد يسمح له بممارسة مهامه، وتحدّي قرار رئيس الجمهورية قيس سعيد بتجميد أعمال البرلمان.
لكن على الرغم من هذا اللين، وتوسيع الخطاب وإقحام المؤسسة العسكرية في مهمة “حماية الدين”، سرعان ما أتاه الردّ سريعا من عنصر لم تبين الكامرا رتبته في الجيش الوطني التونسي إلا أنه كان حازما وقاطعا، ولربما مدرَّبا بشكل جيد على هكذا موقف ومواجهة”
“نحن عسكريون نطبّق التعليمات، و أقسمنا على حماية الوطن ، ومن المفترض أنه قد تم إعلامكم بقرار الغلق، ولستٌ مفوضا بإعلامكم”.
ارتفع صوت الغنوشي فجأة وتحوّل الخطاب من استجداء رصين إلى مساءلة حادة، فيها نبرة صاحب الحق الذي منع من الدخول إلى “مكان” يعود إلى ملكه.
“انت مفوض فقط لغلق الباب في وجه رئيس المجلس”
من حماة الوطن إلى الجنود والضباط “المرتدون”
ثلاث دقائق تشنجت فيها نائبة عن حركة النهضة، وارتفع صوتها وعلا، حتى أخذ عنها رئيس مجلس نواب الشعب المجمد عنها الكلمة قائلا:
أنا رئيس المجلس راشد الغنوشي أقف أمام المؤسسة التي أرئسها عاجزا عن دخولها ممنوعا من دخولها..لا تمضوا في هذا العبث لأن الشعب التونسي لن يقبل بهذا العبث وهذه الردة! مادامت الحرية مهددة فلا قيمة للحياة.
زهد الغنوشي فجاة في الحكم والحياة سويا، واستغنى عن سنين طويلة من الصراع السياسي من أجل الحكم، لا من أجل الدفاع عن الدين أو الشريعة،
“عبث”، “ردّة”، عبارات هي الأخرى كلها بينت بشكل واضح أن راشد الغنوشي قد نفدَ صبره، ولم يتردد في إصدار موقف قاطع ضدَ المؤسسة العسكرية و إقحامها فيما يحدث، ونعت ما أتته من منعه عن دخول البرلمان بـ”الردة”.
ولربما القصد أبعد من ذلك أيضا، فإن بحثنا عن المقصد من اسم الإشارة “هذا”، نتبين أن الغنوشي بصدد وصف المشهد العام ككل، المشهد المفاجئ الذي صنعه وفق إنذارات سابقة رئيس الجمهورية قيس سعيد.
و”الردّة” هي الرجوع عن الإيمان باعتبار المعنى الديني؛ فالشرع الإسلامي يخصص اللغة ويقيّدها، كما أن الردة هي قطع الإسلام؛ لأن الإسلام عقد وميثاق، وحبل الله المتين وفق الفقهاء، فإذا ارتد الشخص فقد “نقض العقد وقطع هذا الحبل.
والردة، كما ذكر البـهـــوتي قد تكون نطقاً، أو اعتقاداً، أو شكاً، أو فعلاً، لكن يسوغ أن ندرج الشك ضمن الاعتقاد باعتبار أن الشك يكون في عمل القلب المتعلق بالاعتقاد.
وأما عن عقوبة “الردة” فقد اتفق هؤلاء الإسلاميون، محمد عمارة وطه جابر العلواني وحسن الترابي على وجوب العقوبة على الردة المقترنة بالخروج بالقوة على النظام العام.
ثم اختلفوا في الردة التي لم تقترن بذلك على أقوال:
حيث يرى راشد الغنوشي ومحمد سليم العوا، بأنه بالإمكان قتل المرتد وأن العقوبة سياسية تعزيرية إن شاء الإمام أمضاها وإن شاء لم يُمضها. وأما يوسف القرضاوي يرى التفريق بين الداعية لردته فيقتل وغيره فلا يقتل. وذهب كل من عبد المتعال الصعيدي وعبد المعطي بيومي إلى حكم أخف وهو”الاستتابة أبدا”.أي طلب التوبة، يقال: استتبت فلاناً أي عرضت عليه التوبة ممّا اقترف، والتوبة هي الرجوع و الندم.
شكرا شكرا أيها الجنود أيها الضباط وندعوكم إلى أن تكونوا مع شعبكم ..تدافعون عن حقوقه كما عهدناكم دائما.
كانت هذه الجملة الأخيرة لراشد الغنوشي لربما استدرك فيها عبارة خطيرة قد تلقي بالتونسيين في مربع ضيق من التناحر والاقتتال.