21/07/31
تتواصل موجة هجرة الأدمغة والكفاءات من تونس بشكل غير مسبوق في اختصاصات عدة ويشمل ذلك القطاع الصحي حيث تشهد البلاد التونسية ارتفاعا كبيرا في هجرة العاملين بالقطاع الصحي وخاصة الممرضين/ات. وعن أسباب استمرار ظاهرة هذه الهجرة وتداعياتها على النظام الصحي في تونس، استطلعت كشف ميديا آراء ممرضين/ات تونسيين/ات منهم من حطَّ الرّحال في ألمانيا وقطر.
سيف الدين الميساوي 33 سنة ممرض، يعمل بقسم الاستعجالي بمستشفى الأطفال البشير حمزة منذ سنة 2012، وهو متخرج من المعهد العالي لعلوم التمريض بتونس. بعد سنة من انتدابه للعمل بالمستشفى، درس علم النفس في المعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس. وبعد ذلك أتيحت له فرصة تأطير طلبة المعهد العالي لعلوم التمريض بالمستشفى الذي يعمل به. وكان متطوعا لمدة سنتين ومن ثمَّ أتيحت له فرصة تأطير طلبة معهد خاص.
بعد 9 سنوات متتالية من العمل في تونس قرَّر سيف الهجرة الى ألمانيا. وكان الدَّافع حسب ما يرويه هو تحسين الظروف الشغلية وتقاضي راتب أفضل بكثير من الموجود في تونس اضافة الى الابتعاد عن العراقيل والمعوقات التي تعرض لها أثناء عمله في تونس.
“الصحة العمومية كل يوم تغرق وفي تراجع، لم يعد هناك تجهيزات صالحة حتى ونقص حاد في الإطار الطبي. الذي يغادر لا يعوّض نظرا لإيقاف الانتدابات. الظروف لم تعد ملائمة للعمل اطلاقا .”
ويرى سيف الدين أن العمل في الظروف الحالية في تونس هو مشاركة في جريمة صحية في حق المواطنين، وأن الإطار الطبي من أطباء وممرضين لا دخل لهم في تردي الخدمة الصحية العمومية.
ويشير إلى أنه من الصعب العمل في ظل نقص حاد في التجهيزات الطبية واللوجستية إضافة إلى الإمكانيات الإدارية والتسيرية التي تكاد تكون منعدمة، إذ يستقبل المستشفى مرضى من مختلف أنحاء الجمهورية ويكون أعوان الصحة أمام مواقف محرجة.
“عندما يأتي مريض وخاصة من مناطق بعيدة عن العاصمة، وتكون المستشفى تفتقر للدواء والتجهيزات الحديثة، فهذا ليس من مسؤولية أو خطأ الممرضين أو الأطباء، أحيانا نتعرض للاعتداء والعنف، وقد نتفهم الحالة النفسية المنهارة للمواطنين في ظل هذه الظروف”.
من جهته يفيد بلال القاسمي رئيس النقابة الوطنية للممرضين التونسيين بأن وضع الممرضين/ات في تونس ازداد سوء، إذ أنَّ أجور الممرضين بالمصحات الخاصة لا يشجع الممرضين على العمل بها ولا توجد أي سلطة تفرض على هذه المؤسسات الخاصة أجر أدنى معين.
وهو الحال في أجور الممرضين/ات داخل المستشفيات العمومية فهي أجور زهيدة مقارنة بغلاء المعيشة إضافة إلى العمل في حد ذاته غير محدد بقانون، وحسب تعبيره فإن الممرض داخل المستشفيات يقوم بكل الأعمال إلا عمل الممرض.
“نزاولُ مهنة التمريض دون قانون أساسي واضح ينظمها ويحمي حقوقنا كممرضين/ات”.
ويفسر القاسمي بأن النظام الأساسي الحالي الذي ينظم المهنة غير دقيق وأن المناشير الصادرة من وزارة الصحة هي التي تنظم عمل الممرضين وهي مناشير غير صادرة عن أهل الاختصاص على حد تعبيره .
“هي تشريعات لا تحمي الممرضين/ات بل تورطهم أكثر. الممرض/ة يجد نفسه داخل المستشفى يقوم بأعمال الطبيب أو نقل المرضى أو العمال وحتى تنظيف الغرف. لذلك وجب إصدار قانون أساسي ينظم العمل ويحدد الواجبات والحقوق”.
سيف الذي يعمل حاليا بألمانيا، تفاجأ منذ وصوله، بدرجة الحرفية في المستشفيات الألمانية، وخاصة حقوق الممرضين والمميزات التي يتمتعون بها.
“الوضع بعيد كل البعد، عن ما عايشناه في تونس، من عدم توفير الحماية داخل المستشفيات، وأبسطها كانت غائبة، مثل الكمامة الطبية ffp2، وهو ما كان سببا في إصابتي بفيروس كوفيد-19 مرتين وقد طال الفيروس رئتي بنسبة 10 بالمائة”.
هذا بالاضافة الى ان وزارة الصحة لم تتكفل بعلاج ومتابعة صحته حيث تكبد سيف مصاريف العلاج. يرى سيف أن جائحة كوفيد-19 كشفت اهتراء المنظومة الصحية في المستشفيات العمومية، لأنها كانت طول الوقت تشكو نقصا وجاء كوفيد-19 حتى يظهر المشهد الحقيقي.
ويقارن محدثنا ظروف عمله الحالية بالتي كانت في تونس ويقول:
” هنا (ألمانيا) أستطيع الحصول على كمامة ffp2 بسهولة وكلّما احتجت إليها أجدها متوفرة رغم أن العمل في قسم الجراحة لا يعتبر من الخطوط الأمامية في مواجهة الكوفيد”.
سيف ليس الوحيد الذي قرّر الهجرة فهناك العديد من الممرضات والممرضين هم بصدد القيام بإجراءات الهجرة وتقريبا يتفق أغلبهم على أسباب الهجرة.
حيث يؤكد مدير انتداب المتعاونين بالوكالة التونسية للتعاون الفني عماد عبد النور لـ”كشف ميديا”، أن عدد المهاجرين/ات من الإطارات الشبه طبية في تزايد.
حيث بلغ إلى حدود 30 جوان 2021 عدد المهاجرين 444 مهاجر في الستة أشهر الأولى لسنة 2021 مقارنة بـ 416 مهاجر سنة 2019. وكل من ألمانيا وإيطاليا وكندا هي الدول الأكثر استقبالا للمهاجرين. ويضيف بأن وزارة الصحة لا تستطيع أن تمنع هذه الهجرة رغم النقص داخل المستشفيات لأنه اذا حصل ذلك يقوم أعوان الصحة بتقديم استقالته الى الوزارة.
عبد الباسط غلقاوي، ممرض شاب وعضو بالنقابة الوطنية للممرضين التونسيين هاجر مؤخرا للعمل في العاصمة القطرية الدوحة كممرض في إحدى المصحات هناك. يروي لـ”كشف ميديا” جزء من مسيرته:
“منذ دخولي في معترك الحياة المهنية أواخر 2015 في احدى المصحات الخاصة حيث الأجر لا يكفي للكراء و متطلبات الحياة ، و كان العمل نوعا من أنواع الاستعباد فقررت بعدها بثلاثة شهور فقط الاستقالة”.
يقول غلقاوي أنه عمل ، بعدها في محل تمريض الى ان جاء دوره في الوظيفة العمومية أين عمل في قسم الاستعجالي، و صدم على حد تعبيره من سوء من مستوى ضغط العمل و المشاكل المهنية و الادارية.
ويعتبر غلقاوي ان المشكل الأكبر الذي يواجهه الممرض هو ضعف الاجر و نظرة الازدراء له من طرف المواطنين و خاصة من طرف المسؤولين في وزارة الصحة.
يعتقد محدثنا أن رغم كل محاولات الإصلاح تجابه بالتخوين والتشويه من قبل ما سماها لوبيات فاسدة تتحكم في وزارة الصحة .
وعلى الرغم من هذا المشهد المحبط، قاوم عبد الباسط وقرّر الحصول على شهادة الماجستير علّه يجد طريقا أرحب للنهوض بمهنة التمريض و محاولة تغيير النظرة السيئة لها. يضيف:
“لكنني صدمتٌ مرة أخرى واستنتجتٌ أن كل ما قمت به كأنه سكب الماء في الرمل ، إذ لا يوجد تنظير للشهائد بوزارة الصحة وحتى المناصب التي تتطلب بعض المهارات لا يتولاها الى المقرب من المسؤولين و اللوبيات”.
عبد الباسط قرَّر التحول للعمل خارج تونس لتحسين ظروفه الاجتماعية. واختار العمل في قطر لعدة أسباب منها، انها من أكثر الدول التي يرتفع فيها أجر الممرض.
“أنا عكس العديد من الزملاء الذين اختاروا الهجرة نحو أوروبا، لأنني اريد الاستقرار بصفة دائمة خارج حدود الوطن، لعلها ستكون فترة قصيرة لتحسين الظروف الاجتماعية. و لعلي أعود لحلمي وهو لدفع لتغيير واقع التمريض في تونس”.
تبقى معضلة هجرة الكفاءات التونسية من أكبر التحديات التي ستجابه الحكومة القادمة، خاصة العاملين في المجال الصحي في ظل تواصل انتشار جائحة كوفيد-19، وفراغ كبير في المستشفيات العمومية من الاطارات الطبية. وهو ما يدعو وزارة الصحة إلى مراجعة سياستها تجاه مهنييها، والانكباب جديا على الاستجابة لمطالب الأطباء والممرضين الشبان، والبحث عن حلول عاجلة لتشجيع هؤلاء على مزاولة مهنهم في بلادهم.
أنتج هذا العمل بدعم من منظمة « صحافيون من أجل حقوق الإنسان » الشؤون الدولية/كندا