كشف بيئي


القصرين زمن الكوفيد: موارد رزق التهمتها النيران والحزن يخيّم على الأهالي

21/08/13

دخان كثيف يتصاعد من كل أنحاء المرتفعات الجبلية التي تحيط بـ”الدّوار” ويغرقه في سواد حالك  في وضح النهار، تزيده حرارة الطقس وارتفاع درجات الحرارة  وانعدام الماء الصالح للشراب وغياب كل مقوّمات العيش الكريم،  معاناة على المعاناة ، هنا تحت سفح الجبل يختنق الصغير كما الكبير بدخان الجبل المحروق.

الأزهر الحريزي كهل في عقده الخامس ، آلمته رائحة الصنوبر الحلبي والعرعار والحلفاء التي اختلطت برائحة الرماد. بكي لضياع  ثروات غابية  كانت مصدر رزقه الوحيد. كانت اقوى الاسباب التي تشدّه الى أرض الآباء وقداسة  “الرّاقوبة” .

تحدث الينا بهيبة الفلاّح و وقار حارس الحدود المرابط على أرضه رغم نبرة صوته التي تخفي حزنا عميقا ، عمّ الأزهر  من منطقة “الجروالة”  الموجودة على سفح جبل مغيلة التابعة لمعتمدية سبيطلة من ولاية القصرين ومن بين القرى المتضررة من الحرائق كغيرها من القرى الأخرى ، هو أب لخمسة أطفال أكبرهم طالبة في المرحلة النهائية وقريبا تصبح طبيبة ، يرتدي مظلته لتحميه من حرارة الشمس الحارقة  ويمسك ببقايا بيوت النحل مورد رزقه الوحيد ، يقول

 هاتفت السلط وأعلمتهم منذ بداية نشوب الحريق وما يمكن أن ينجرّ عنه ،  لكنهم تأخروا 

يضيف متنهدا:

قمتٌ بتهريب اغنامي إلى بيت اقاربي خارج  المنطقة في زحمة الدخان الذي غطّى “الدّوار” وألسنة اللهب التي تهاجمنا بين الحين والآخر،  وبلغني من ابني أن اثنين من أغنامي نفقت اختناقا بالدخان ، وكذلك فقدت عددا مهما من خلايا النحل.

يؤكد لزهر لـ”كشف ميديا” أن الدّوار مورد رزقه الوحيد خاصة مع صعوبة الأوضاع الاقتصادية منذ انتشار جائحة كوفيد-19، وإذا تواصلت الحرائق، في المنطقة مهددة بالنزوح والهروب من شبح الإرهاب والنيران وصعوبة الحياة.

يشير بيده اليمنى الى النيران التي مازالت تلتهم عمق الجبل متسائلا،  من يقف وراء استهداف ثرواتنا الغابية ؟ من يهدد حياتنا وحياة متساكني سفوح الجبال ؟  و يستدرك قائلا:

 لا أحد يمكنه معرفة ما يحصل، فقط نستمع يوميا الى أصوات القصف المدفعي يستهدف عمق المنطقة العسكرية المغلقة والذي اصبح امرا عاديا بالنسبة إلينا .

في الضفة الأخرى من امتداد السلسلة الجبلية في ولاية القصرين ، اين تحاصر النيران للأسبوع الثاني على التوالي عددا من التجمعات السكنية في سفوح جبل سمّامة و أجبرت البعض منهم على مغادرة بيوتهم بعد أن اقتحمتها وعبثت  بخلايا النحل وشجر الزيتون وبعض المغروسات الفلاحية التي يقتات منها الأهالي. العديد منهم بات يهددهم شبح التشرد وانتقال عدوى كوفيد19 بعدما كانوا في بيوتهم آمنين من كل هذا.

مورد الرزق الوحيد التهمته النيران

الناجي الدبابي  42 سنة متزوج وله ابنان وعاطلان عن العمل، لم تسعفهمها جائحة كوفيد-19 من الحصول على مورد رزق كريم.  يقطن الناجي منطقة زاوية بن عمّار تحت سفح جبل سمامة من ولاية القصرين. المنطقة التي تعيش دون ماء صالح للشراب منذ سنوات والتي تزوّدها السلطات  يوميا بخزان ماء يوزّع على كافة السكان ..يقول لـ “كشف ميديا”

 مازال جبل سمّامة شامخا صامدا رغم النيران التي تلتهم عمقه وبعض جوانبه، لكن سفوحه فقدت ألوانها وبريقها  وخيّم عليها الحزن ، ولم تعد تشاهد سوى ادخنة سوداء كثيفة تغطّي اغلب المنازل.

 يروي لنا الناجي بحرقة أن بعض الأغنام التي كانت ترعى في الجبل خرجت سوداء بلون الدخان والحرائق وبعضها الآخر لم يخرج من الجبل ولن يخرج نهائيا ، بعض الحيوانات التي تعيش داخل الجبل فرّت من النيران وبعضها الآخر تفحّم 

بيوت النحل  اغلبها أتلف، و يتسائل عن مآل بعض النسوة اللاتي يقمن بتقطير نبتة الإكليل  وجمع حبات الزقوقو من شجر الصنوبر الحلبي  وجمع الحطب ورعي الأغنام  لمجابهة صعوبات الحياة وتأمين مصاريف أبنائهم زمن الكوفيد، ماذا سيفعل الأهالي بعد ان فقدوا مورد رزقهم الوحيد ؟ يسكت برهة ثم يضيف : 

“حتى زيارة السلط الجهوية لمعاينة الأضرار التي لحقتنا لم ترافقها قرارات او اجراءات باستثناء اعطاء الاذن بنقل عدد من العائلات المتضررة الى مركز ايواء  قريب من التجمّع السكني، إلى حين السيطرة على الحرائق ، ولكنهم رفضوا المغادرة وفضّلوا البقاء في منازل أقاربهم “.

وبالإضافة إلى حريقي جبل سمامة ومغيلة ، ورصد مخلفاتهما على الأهالي ، قال رئيس دائرة الغابات بالإدارة الجهوية للفلاحة بالقصرين يامن حقي إن حريقا آخر نشب مساء الخميس 12 أوت  داخل المنطقة العسكرية المغلقة بجبل الشعانبي مضيفا أن أعوان الغابات على اتم الاستعدادات متى سمح لهم بالدخول ، نظرا إلى أن المنطقة العسكرية المغلقة تخضع لتصرّف الجيش الوطني.

 يامن الحقي لم يخف حزنه على المساحات الغابية الهامة التي اتلفتها الحرائق بالمرتفعات الجبلية بالقصرين والتي بلغت 1100 هكتارا منذ  بداية شهر جوان تاريخ نشوب الحريق ، دون احتساب مساحات المناطق العسكرية المغلقة  ، مضيفا أن الجهة خسرت ثروات غابية هامة قد تستغرق وقتا طويلا لاستعادتها .

وفي ظل الصمت الرسمي المريب أمام مأساة الأهالي وغياب المبادرات الحكومية للنهوض بهذه المناطق ومساعدتها على مجابهة الخسائر التي تكبدتها ، بعد أن فقدت مورد رزقها المتأتي من الجبل  خاصة ، وكذلك  مشاريعها الصغرى مثل خلايا النحل وبعض الأغنام والغراسات الفلاحية وغيرها، وعجزها عن  توفير قوت ابنائها قبل شهر من العودة المدرسية ، جاءت المبادرة من الفنان والناشط بالمجتمع المدني عدنان الهلالي أصيل سفوح جبل سمامة  ،  الذي انطلق صحبة شبكة من الفنانين والمبدعين والوجوه المعروفة  في جمع التبرعات  لتوفير مستلزمات 500 تلميذ من أبناء المناطق المتضررة ، ومساعدة بعض العائلات المنكوبة.

عدنان الهلالي يعتبره أهالي القصرين من بين الذين  صنعوا مجد سمّامة على امتداد العشر سنوات الاخيرة  وزرع فيها امل التشبث بالأرض من خلال إنشاء المركز الثقافي للفنون والحرف لعرض منتوجات الجبل، وحوّل سفوحه  الى عاصمة كونية للثقافة الجبلية، في تظاهرة حضرها نجوم العالم.

وسافر بإبداعاتهم المسرحية التي أنتجها أبناء  سمامة  الى كل اصقاع الدنيا للتعريف بمناظرها الخلابة  ، الهلالي الكاتب والفنان والإنسان  وصاحب العمل المسرحي الشهير ” وقت الاجبال تغنّي” الذي غيّر ملامح الجبل من وكر لملاحقة العناصر الارهابية وانفجار الألغام الى درّة لتفجير المواهب وزرع البسمة  ، واستقطاب نجوم العالم في الفن والإبداع  لزيارة هذه الربوع والمكوث بها أيام ، وجعل منها مسرح  للفن والفرح وتصوير الأغاني وعرض ابداعات ابناء المركز الثقافي ، كان حاضرا في نكسة الحرائق التي حلّت بابناء قريته الجبلية ولم يتخل عنها في محنتها ولو بالقليل .

من يقف وراء الحرائق ومن المستفيد منها ؟ 

حملتنا أسئلتنا إلى عدد من المواطنين ، على الأقل من الذين تحدثنا إليهم من القاطنين بالقرب من الأماكن المتاخمة للمناطق العسكرية المغلقة ، بخصوص أسباب الحرائق .لا أحد من الجهات الرسمية والغير رسمية قادر على فك شفرة  الأسباب الحقيقة لتواتر الحرائق بشكل لافت في السنوات الأخيرة أغلب الذين تحدثوا الينا نفوا نفيا قطعيا ما يتردد من روايات بخصوص تورّط ما اسموه  بـ “عصابات الحطب “، وهم  المستفيدون من جمع الحطب دون سند قانوني وبيعه لتحويله إلى فحم أو الى تجّار الخشب ، وأغلب الذين التقتهم “كشف ميديا” تذهب روايتهم إلى العمليات العسكرية الجارية في تعقّب العناصر الارهابية المتحصّنة بالمرتفعات الجبلية ، وما تقتضيه من استهداف مباشر مخابئهم من خلال عمليات القصف المدفعي العنيف المتواصلة بشكل يومي ، في حين يذهب شق آخر إلى ارتفاع درجات الحرارة التي تعيشها الجهة  خلال هذه الفترة والتي بلغت 45 درجة في نشرة الارصاد الجوية ، وبين هذا وذاك تبقى رواية السلط الرسمية  بخصوص الحرائق غامضة ، حيث ترجع أسباب اندلاعها إلى أسباب مجهولة  الى حد الان . 

حاولنا الحصول على تصريحات رسمية في خصوص أسباب الحرائق في القصرين لكن تعذر ذلك، ولم نتحصل على إجابات.


إشراف عام خولة بوكريم

بالشراكة مع منظمة « صحافيون من أجل حقوق الإنسان » الشؤون الدولية/كندا