كشف حكومي


أصحاب الشهائد العليا زمن الكوفيد: أحلامنا معطلة ولم يبقَ لنا سوى الهجرة

21/08/25

تعرف تونس منذ سنوات أزمة بطالة تسببت في اندلاع احتجاجات اجتماعية منادية بخلق مواطن شغل خاصة للشباب من أصحاب الشهائد العليا،  ومع انتشار فيروس كورونا في تونس زادت الأمور تعقيدا بالنسبة لهم، بعد أن أصبحت فرص العمل في انخفاض متواصل خصوصاً بعد الأزمة الاقتصادية التي خلفتها. 

 بعد مسيرة دراسية امتدت لسنوات بهدف الحصول على شهادة علمية تضمن لهم موطن شغل و حياة كريمة، يجد هؤلاء أنفسهم في مواجهة شبح البطالة والتشغيل الهش الذي لا يتناسب مع مؤهلاتهم العلمية و كفائتهم ، هذا الأمر الذي طال امده مما دفع كثيرا منهم الى الهجرة سواء عبر طرق نظامية أو عبر قوارب الموت التي تعبر البحر الأبيض المتوسط بشكل يومي تحمل العشرات منهم وقد يفقدون حياتهم قبل وصولهم لوجهتهم النهائية. .

أمير، 24 عاما هو واحد من بين آلاف الشباب الذين اجتهدوا لبلوغ مبتغاهم  المتمثل في شهادة جامعية أملا في الحصول على وظيفة. متحصل على الإجازة الأساسية في اللغة الصينية من المعهد العالي للغات بتونس و هو يعيش أزمة البطالة دون يوم شغل واحد منذ حصوله على شهادته الجامعية.

كنت أطمح لدخل شهري قار لتغيير واقعي المادي و يكون سببا في تحسن الأوضاع نحو الأفضل بالنسبة لي و لعائلتي التي أمضت سنوات تقاوم ظروفا صعبة لتضمن لي مصاريف الدراسة وعدم الانقطاع عن الجامعة.

و يرجع  أمير السبب الرئيسي لأزمته إلى ظهور فيروس كورونا ، فهو يقول بأن دراسته و تخصصه يقومان أساساً على الحركية السياحية في تونس و انتصاب الشركات الصينية. أما عمله الذي  درس من أجله لغة تعتبر غريبة بعض الشيء و لا يتقنها إلا قلة قليلة في تونس كان مرتبطا أساسا بوكالات الأسفار التي تشتغل مع السياح الصينيين و الآسيويين عموما أو بعث مشاريع استثمارية من الشركات و الحكومة الصينية على أرض تونس.

ٍأمير، 24 عاما متحصل على الإجازة الأساسية في اللغة الصينية



وعلى الرغم الأزمة التي تعمقت في القطاع السياحي مازال أمير  ينتظر زوال الجائحة و عودة العجلة الاقتصادية و خاصة السياحية الى سالف نشاطها عسى أن يجد موطن شغل يعوضه مرارة السنوات التي قضاها بين جدران غرفته يتصفح فرص العمل داخل تونس أو خارجها أو باحثا عن منح لمواصلة دراسته في بلد آخر ، 

البقاء في تونس الآن لن يغير شيئا بالنسبة لي، فحتى لو حالفني الحظ وحصلت على  فرصة عمل فلن يراعي تطلعاتي و تخصصي و لن يكون كافيا لتغطية تكاليف المعيشة التي ترتفع يوما بعد يوم في تونس. أنا بصدد البحث عن فرصة للهروب من هنا، لأنني لم أعد  قادرا على التحمل أكثر و لا أرى أي بشائر لغد أفضل”

يرى أمير أنه لا حل لأزمته سوى بالمغادرة و الخوض في غمار تجربة جديدة بإحدى البلدان الأوروبية، إضافة الى أنه يعتبر العمل في مجال آخر غير تخصصه بأوروبا أو ربما إحدى دول الخليج العربي لا يزعجه كثيرا لأنه يعلم بأن الدخل سيكون كافيا لتوفير حياة كريمة و في ظروف أفضل بكثير مما هي عليه هنا في تونس و سيكون قادرا على تقديم يد العون لعائلته و تحسين ظروف عيشهم.

الانتشار الواسع للبطالة بين صفوف الشباب الحاصل على الشهائد العليا، أزمة تثبتها الأرقام المسجلة على الصعيد التونسي في الفترات الأخيرة،  حيث أعلن المعهد الوطني للإحصاء عن ارتفاع نسبة البطالة في تونس إلى حدود 17,4 بالمائة خلال الثلاثي الرابع من سنة 2020 مقابل 16,2 بالمائة خلال الثلاثي الثالث من نفس السنة  وقد بلغ عدد العاطلين/ات عن العمل 725,1 ألف عاطل عن العمل من مجموع السكان النشيطين في نفس الفترة.

 وقد بلغت نسبة بطالة أصحاب الشهائد العليا 30,1% خلال الثلاثي الثالث لسنة 2020 حسب ٱخر الارقام للمعهد الوطني للإحصاء ، و تجاوزت نسبة البطالة للإناث منهم حاجز 40% مقابل 17,6% لدى الذكور 

 نسب البطالة الإجمالية واصلت في الارتفاع لتصل الى 17,8% خلال الاشهر الثلاث الاولى لسنة 2021، وهو ما يعكس الانخفاض المتواصل لفرص العمل إضافة الى العدد الكبير من الشركات التي أغلقت أبوابها في وجه العاملين بها متأثرة بنتائج أزمة كورونا على الجانب الاقتصادي.

صورة لكشف ميديا /احتجاجات جانفي 2021

ولعل مشكلة امير تعود بعض من أسبابها الى أزمة اقتصادية عالمية خلفتها جائحة كورونا، ففي تقرير نشرته منظمة العمل الدولية بتاريخ 2 جوان 2021 أكدت بأن “فجوة فرص العمل” الناجمة عن الأزمة العالمية ستصل إلى 75 مليون فرصة في عام 2021 قبل أن تتراجع إلى 23 مليون فرصة عمل في عام 2022 . ويأتي هذا النقص في فرص العمل وساعات العمل ليضاف إلى المستويات الطبيعية التي تعتبر مرتفعة لمعدل البطالة ونقص استخدام اليد العاملة وسوء ظروف العمل حتى قبل الأزمة.

كما يضيف التقرير وانه نتيجة لذلك، يُتوقع أن يصل معدل البطالة العالمي إلى 205 ملايين شخص في عام 2022، متجاوزاً إلى حد كبير مستوى الـ 187 مليون شخص المسجل في عام 2019 مما يعني أن معدل البطالة سيبلغ 5.7 %. و تجدر الإشارة أنه وباستثناء فترة أزمة كوفيد-19، فإن المرة الأخيرة التي يصل فيها معدل البطالة إلى هذه النسبة كانت في عام 2013

حسيب عبيدي المكلف بالإعلام لدى اتحاد أصحاب الشهادات المعطلين عن العمل أكد لكشف ميديا أن عدد المعطلين/ات عن العمل يقدر حسب الأرقام الرسمية ب 17,9% أي ما يعادل حوالي 700 ألف شخص و يضيف بأنه و حسب تقديرات الاتحاد فإن الأرقام التي تقدمها الحكومة هي مغلوطة وأن العدد الحقيقي قد يناهز المليون إجمالا.

عدد العاطلين/ات من أصحاب الشهائد العليا يتجاوز 400 الف و أن المناطق الداخلية بصفة خاصة تعرف نسبا مرتفعة من المعطلين عن العمل لغياب المشاريع القادرة على استيعاب الشباب في تلك المناطق إضافة إلى أن هذه  النسب عرفت ارتفاعا بعد ظهور كورونا في تونس سنة 2020

حسيب عبيدي المكلف بالإعلام لدى اتحاد أصحاب الشهادات المعطلين عن العمل

عبيدي يعتبر  أن فيروس كورونا ساهم بدرجة كبيرة في ارتفاع عدد  المعطلين عن العمل خاصة من الجيل الجديد الذي دخل سوق الشغل حديثا حيث أثر انتشار الجائحة على مستوى الوضعية الاقتصادية للمؤسسات مما أدى إلى تسريح أكثر من 160 ألف  عامل/ة و الرقم في ازدياد و يقدر أن يبلغ  200 الف في الفترة القادمة.

  الجهات الحكومية لم تقم بدورها كما ينبغي لحلحلة الأزمة بل زادتها تعقيدا و ساهمت من خلال قراراتها المرتهنة للوبيات في غلق العديد من المؤسسات ودعم مؤسسات على حساب أخرى.

أ.ن، شابة في سن الثامنة و العشرين و متحصلة على الاجازة في إدارة الأعمال من المعهد العالي للدراسات التكنولوجية بالشرقية منذ ما يزيد عن الخمس سنوات.  تنحدر من أسرة محدودة الدخل إضافة الى أنها الأخت الكبرى و التي انتظر والدها كثيرا إنهاء مسيرتها الدراسية لتعويضهم  عن مصاريف السنوات الطوال، إلا أنها وجدت نفسها عاجزة عن تحقيق رغبتها و خيبت ظن عائلتها فيها حسب قولها.

كانت تروي قصتها مع البطالة و ملامح وجهها توحي بكثير من الحزن و خيبة الأمل، فحتى ابتسامتها أثناء الحديث كانت تخفي كثيرا من الألم و كأنها ابتسامة تقاوم بها مرارة ما تسرده من تفاصيل موجعة طيلة رحلة 5 سنوات من البحث عن عمل بين مقرات الشركات و مكاتب التشغيل و تصفح مواقع الويب عسى ان تظفر بعرض شغل.

تونس أصبحت تمثل كابوسا بالنسبة لي  بعد ما عاينته من محاولات الاستغلال و الاحتقار. كنت أتعرض لكل هذا في أغلب المرات التي توجهت فيها الى إحدى الشركات التي سمعت انها بصدد البحث عن موظفين جدد.

أثناء الحديث انفعلت “أ.ن” قليلا و كادت الدموع تغمر عيناها عندما حدثتنا عن محاولة التحرش بها من طرف موظف في إحدى الشركات التي رفضت أن تذكر أي معلومة أخرى حولها. تشير إلى أنه اعتدى عليها لفظيا وتوجه لها بكلام بشع يوحي بأنها سلعة قابلة للبيع والشراء مقابل ضمان مكان لها في الشركة دون حتى انتظار نتيجة اللقاء الذي ستجريه مع المكلفة بالانتداب، إلا أنها رفضت رفضا قطعيا و أبت أن تقدم جسدها قربانا لهذا الشخص.

  خفضت رأسها وسكتت قليلا لتشعر وأنت تنظر إليها بأنها قد عادت قليلا بالزمن و هي تتذكر تفاصيل الواقعة و كلمات الرجل التي من المؤكد أنها لم تفارق مسامعها إلى الآن ، و من ثم ابتسمت قليلا وقالت ” لا علينا ، فهكذا هي الحياة مليئة بالصعاب والتحديات .

تخبرنا أ.ن عن كل مرة كانت تستعد فيها للتقدم لفرصة عمل جديدة،  محملة بسيرتها الذاتية المليئة بالتربصات والدورات التدريبية إضافة الى شهادتها التي تعتبرها خلاصة مجهود سنوات من الاجتهاد و المثابرة و التحدي. 

 اشتغلت معينة منزلية طيلة 3 أشهر دون أن تعرف عائلتي ذلك وقد أخبرتهم بأنه تم قبولي بإحدى الشركات في وظيفة تناسب تخصصي بأجر زهيد جدا لكن كان لدي أمل في أن يكون قابلا للارتفاع مع مرور الوقت .

و ترجع أ.ن سبب عدم مصارحة عائلتها بوظيفتها الحقيقية الى رفض والدها هذا النوع من الأعمال وهو يفضل بقائها في المنزل و المساعدة في الشؤون المنزلية على أن تشتغل في وظيفة لا تليق بمستواها العلمي  على حد تعبيرها.

وعلى الرغم من إقرارها بأن مهنة المعينة المنزلية مهنة شريفة لا تنقص شيئا من قيمة المرأة بل تزيدها رفعة و اعتزازا بالنفس ألا انها اشتغلت مكرهة لكي توفر قوت يومها و تساعد عائلتها حتى بالقليل من المال تزامنا مع تقدم أخويها في السن و حاجتهم الملحة الى مزيد من المصاريف الدراسية خصوصاً وأنها ترغب في أن يواصلا دراستهما و لا يغادرا المدرسة بسبب سوء الظروف المادية 

يقول حسيب العبيدي في هذا السياق إن اتحاد أصحاب الشهادات العليا المعطلين عن العمل قد نبه منذ سنوات من خطورة التعاطي مع ملف التشغيل من منطلق الحلول الترقيعية و الارتهان للمانحين الدوليين في اتخاذ القرار و دعى إلى ضرورة العمل على وضع استراتيجية واضحة في مجابهة معضلة البطالة و التي تقوم أساسا على مراجعة المنظومة التعليمية وإعادة دور الدولة الاقتصادي و الاجتماعي في المناطق الداخلية و القطع مع منظومة التشغيل الهش و حوكمة الموارد

صورة لكشف ميديا احتجاجات فيفري 2021

نحن  نعتبر أن منظومة الحكم كانت فاعل أساسي في تغذية البطالة في تونس و نعتبر كذلك أنها اذا لم تقم بمراجعات حقيقية للمنوال التنموي و محاسبة الفاسدين و التوجه نحو دعم الثروة الصناعية فإننا سنجد أنفسنا  في وضع جد سيء و بأرقام بطالة مرتفعة ستؤدي إلى حالة انفجار شعبي بالضرورة.

أ.ن بدورها  لم تيأس حتى بعد كل هذه العراقيل  اشتغلت بأحد المصانع سنة 2019 ، إلا أن هذه التجربة لم تدم كثيرا بحلول سنة 2020 و انتشار جائحة كورونا في تونس، وإعلان الإجراءات الصحية التي جعلت الشركة تتخلى عن خدماتها صحبة مجموعة أخرى نظرا للضائقة المالية التي حلت بها و تراجع نشاطها بشكل كبير لتجد نفسها بلا وظيفة من جديد منذ ما يزيد عن السنة . 

كلمات “أ.ن” الأخيرة كانت تحمل رسائل إيجابية رغم حجم المعاناة و تقاسيم وجهها التي تعكس حالتها النفسية الصعبة ، و تنهي حديثها قائلة:

لو كان لي خير في هذه الحياة سيأتي عاجلا ام ٱجلا، و لو كان لي نصيب في شيء من الله فلن يضيع. رغم كل شيء أرغب في مواصلة دراستي و العودة الى مقاعد الجامعة مرة أخرى لللحصول على شهادة الماجستير لعلي أفتح آفاقا جديدة.

تتطلع أ.ن  إلى أن يفتح أمامها باب الأمل في الحصول على فرصة عمل لتدارك كل ما عايشته من ظروف اجتماعية واقتصادية سيئة، حالمة بتونس افضل تعطى فيها الفرص للأجدر و الاكثر استحقا لا حسب الولاء و القرابة و المصالح الشخصية حسب قولها.  


كتب هذا المقال بصيغة حساسة للجندر

تم اخفاء هوية المتحدثة بطلب منها

إشراف عام خولة بوكريم

بالشراكة مع منظمة « صحافيون من أجل حقوق الإنسان » الشؤون الدولية/كندا