21/09/12
تحاول الدولة التونسية منذ سنوات توفير منصات رقمية و خدمات إلكترونية للمواطنين لتسهيل ولوجهم للخدمات التي تقدمها والتي تمس مباشرة حياتهم اليومية، لكن الآثار الإيجابية لهذا الإجراء بقيت محدودة و أظهرت فشلا نوعيا خاصة في ما يتعلق بتكافؤ الفرص بين فئات مختلفة..
مشكل الولوج إلى المنصات الرقمية التي تخصصها الحكومة و تستهدف الفئات المهمشة و كبار السن والأميّين/ات يثير أكثر من تساؤل حول جودة الاستراتيجية و التمشي الذي تعتمده المؤسسات الحكومة و وزراتها ومدى مراعاتها لهذه الفئات.
الخالة “حليمة”، 70 عاماً، هي إحدى النساء اللواتي تبيع “الطابونة” على قارعة الطريق ،أخبرتنا أنها لم تتلق التلقيح و غير مسجلة في منظومة ايفاكس كما أنها لا تعلم بأن هناك مساعدات اجتماعية تقدم خلال هذه الأيام يتم الحصول عليها عبر التسجيل في منصة رقمية وضعتها وزارة الشؤون الاجتماعية.
لا أملكُ هاتفاً جوالاً و لا يمكنني استعماله، أنا غير مسجلة للتلقيح و لا أعرف كيف أسجل نفسي ولا أرغب في ذلك أصلا ، و كيف لعجوز مثلي أن تعرف كيفية التسجيل حتى للمنحة الاجتماعية، لو أرادوا مساعدتي حقا سيأتون الى منزلي.
كانت هذه الكلمات التي أجابت بها عندما سألناها إن كانت قد تلقت جرعات التلقيح بعد أن لاحظنا أنها لا ترتدي كمامة و بعد أن أخبرناها بأن وزارة الشؤون الاجتماعية تقوم بتقديم منحة قيمتها 300 د المخصصة للمتضررين من جائحة كورونا، كانت تجيب بطريقة مختزلة و لا تطيل الكلام كثيرا و عيناها موجهتان نحو السيارات بالطريق تنتظر وقوف أحد الزبائن لشراء ما تيسر من الخبز .
كلمات حليمة كانت قليلة تختزل عمق مأساة حالتها الإجتماعية و تكشف الفجوة بين استراتيجية رقمنة الخدمات و واقع مواطنة تونسية الذي لا يفقه استخدام وسائل الاتصال الحديثة.
و تؤكد الأرقام أن تونس لازالت غارقة في مستنقع الأمية و التفاوت التنموي والخدمي بين أرياف منسية منذ عشرات السنين و مدن أخرى
تظهر هذه الأرقام تراجعا طفيفا لنسبة الأمية سنة 2019 حيث كانت في حدود 17.7 % مقابل 18,1 % سنة 2018 و 18,4 % سنة 2017.
وبحسب المعهد الوطني للإحصاء بلغت نسبة الأمية لدى الإناث والذكور في الوسط البلدي سنة 2020، 12,9 بالمائة، فيما ارتفعت نسبتها بشكل أكبر إلى 29,5 بالمائة في الوسط غير البلدي خلال نفس السنة.
الحديث عن رقمنة الخدمات مع هذه الأرقام يجعلنا ندرك بأن المعادلة صعبة خصوصاً اذا كان الامر متعلقا بكبار السن أو الريفيين/ات الذين تكاد قدرتهم على التعامل مع العالم الرقمي منعدمة ، لكن و منذ فترة ذهبت الحكومة التونسية الى التعويل على المنصات الإلكترونية لتقديم خدماتها كما هو الحال مع منظومة ايفاكس للتسجيل لتلقي تلقيح كوفيد 19، أو المنصات التي تضعها وزارة الشؤون الاجتماعية على ذمة الفئات الهشة للتسجيل و الحصول على منح لمساعدة المتضررين من الجائحة و العائلات محدودة الدخل.
فمنذ انطلاق عملية التسجيل للتلقيح المضاد لفيروس كوفيد 19 كانت الأرقام ضعيفة مما دفع وزارة الصحة إلى الانطلاق في حملات توعوية لتحفيز المواطنين على التسجيل في ايفاكس ، لكن كانت النقطة الأبرز هي عدم قدرة الكثيرين على التسجيل بسبب عجزهم على الولوج الى المنصة الإلكترونية بسبب عدم قدرتهم على استعمال الانترنت و الهواتف الذكية ، وهو ما يؤكده كثيرون و عاينته كشف ميديا منذ اليوم الأول للتلقيح المفتوح، الذي شمل الفئة العمرية فوق 40 عاما ، أين قدم عدد كبير منهم إلى مراكز التلقيح غير مسجلين يطلبون يد العون من المتطوعين و المتطوعات الذين تكفلوا بمهمة تسجيلهم على منظومة ايفاكس ، يقول عمر، 24 عاما وهو أحد المتطوعين بمراكز التلقيح
عاينت حالات كثيرة لمسنين لا يجيدون حتى قراءة الأرقام على بطاقات الهوية، لا اعلم كيف يُطلب من هؤلاء تسجيل أنفسهم على منصة ايفاكس ، حقا إنه امر يثير الدهشة
يؤكد عمر أن هذا الأمر كان من السهل ملاحظته في ذلك اليوم حيث تتكرر بكثرة عبارة ” ساعدني على التسجيل ، فأنا لا أقدر على ذلك “ ، و لا يكاد ينقطع طلب يد العون من نساء و رجال توافدوا لطلب التلقيح حاملين بطاقات هويتهم و لا يعلمون مالذي يتوجب عليهم فعله.
و تجدر الإشارة إلى أن 25 %من النساء في تونس أميات إضافة إلى أن أكثر من 60 % من المنقطعين مبكرا عن التعليم هن من البنات الريفيات و إن قرابة 50 % من النساء في أرياف الشمال والوسط الغربي هن أميات حسب ما صرح به وزير الشؤون الاجتماعية محمد الطرابلسي في جانفي 2021، خلال افتتاح ندوة وطنية حول ‘الأمية بالوسط الريفي” بمناسبة الاحتفال باليوم العربي لمحو الأمية.
و يعرّف الشخص الامي بأنه كل شخص لا يحسن القراءة والكتابة ، أما التعريف المعتمد من الأمم المتحدة الصادر في عام 1971 فإنه يعتبر غير أميٍّ كل شخص اكتسب المعلومات والقدرات الضروريّة لمُمارسة جميع النّشاطات التي تكون فيها معرفة حروف اللّغة ضروريّةً لكي يلعب دوره بفعاليّة في جماعته، ويُحقّق في تعلُّم القراءة والكتابة والحساب نتائجَ تُمكِّنه من الارتقاء بنفسه والجماعة التي ينتمي إليها، كما تسمح له بالمُشاركة النّاشطة في حياة بلده.
و مع مرور السنين و التطور التكنولوجي ظهرت مصطلحات جديدة تقسّم ظاهرة الأمية الى درجات ليظهر مصطلح “الأمية الحديثة” أو “الامية التكنولوجية” ، و التي يقصد بها غياب المعارف والمهارات الأساسية للتعامل مع الاَلات والأجهزة والمخترعات الحديثة وفِي مقدمتها الكمبيوتر و الهواتف الذكية ، و”الأمية الالكترونية” تعني عدم قدرة الأشخاص والمجتمعات على مواكبة معطيات العصر العلمية و التكنولوجية والفكرية والتفاعل معها بعقلية ديناميكية قادرة على فهم المتغيرات الجديدة وتوظيفها بما يخدم عملية التطور المجتمعي في المجالات المختلفة وترتبط مشكلة الأمية الرقمية على نحو وثيق بجميع عناصر الأمية الأبجدية .
ايمان بالحاج، أصيلة ولاية بنزرت، صحفية و معلمة تربية اجتماعية – تعليم الكبار
تقول إن فئة الكبار في السن تثابر و تجتهد لتعلم القراءة والكتابة رغم أن الدولة لا تقوم بدورها على أحسن وجه في نشر هذه الثقافة.
تنقصنا الحملات التوعوية و التحفيزية لتعليم الكبار ومحو الأمية ، فكثيرون يتفاجئون عندما يعلمون بأنهم قادرون على دخول مدارس تعليم الكبار والتعلم في فترة الشيخوخة.
تتحدث إيمان، 42 عاما، هي من أهل الاختصاص الذين يعيشون تجربة تعليم الكبار على أرض الميدان ، عن مدى قدرة هذه الفئة على فهم واستعمال التكنولوجيات و هي تؤكد بأنها عاينت حالات لأشخاص دخلوا في يومهم الأول لا يجيدون كتابة أو قراءة حرف واحد ولكن مع مرور الأيام و تلقيهم لمجموعة من الدروس و اجتهادهم في الدراسة أصبحوا قادرين على قضاء حاجياتهم لوحدهم خاصة في ما يتعلق بالوثائق الادارية ، كما حدثتنا عن قصة امرأة و رحلتها من الأمية الى استعمال الهاتف الذكي.
في رأس الجبل بنزرت تتطوع إحدى النساء المختصات في الإعلامية لتقديم دروس إعلامية لكبار السن و الأمييّن/ات، و من بين إحدى المتعلمات امراة اصبحت الآن تستعمل هاتفها الذكي و قادرة على الإبحار على شبكة الانترنت، أعتبرها قصة نجاح وإصرار لإمرأة تطوعت و أخرى ثابرت لتتعلم.
لا تنكر إيمان بأن تجربة مشروع تعليم الكبار ومحو الأمية في تونس يمكن اعتبارها مرضية رغم كل النقائص بفضل مجهودات المتطوعين و المتطوعات و المعلمين/ات و الجمعيات الناشطة في هذا المجال.
كما ترى من جانب آخر أن اعتماد الدولة على المنصات الرقمية في جانب منه لا يراعي هذه فئة الأمييّن يحرمهم من حقوقهم بسبب عدم قدرتهم على استعمال هذه المنصات و عدم إيجاد من يساعدهم في هذا الأمر ففي بعض الأحيان تكون عائلات بأكملها من الوالدين الى الأبناء تعاني الأمية وهو ما يجعلهم عاجزين أمام هذه الإجراءات التي تعتمد على تقنيات حديثة و من جهة أخرى هناك من حالفهم الحظ و وجدوا الإحاطة اللازمة والمساعدة لتسجيلهم في منظومة ايفاكس أو غيرها من المنصات لكن آخرين لم يسعفهم الحظ في هذا الأمر حتى من فئة الشباب ،
ساعدت إيمان عددا من الذين درستهم على التسجيل لتلقي تلقيح كوفيد19 كما كشفت أن من بين تلاميذها شباب في سن العشرين يجهلون القراءة والكتابة ولم يلتحقوا بالمدارس أو انقطعوا سريعا عن الدراسة.
يذكر أنه بلغت نسبة الأمية 2.8 % لدى الفئات التي تتراوح أعمارها بين 10 و14 سنة، و 79,8 % بالنسبة إلى كبار السن (80 سنه فما فوق) حسب أرقام المعهد الوطني للإحصاء.
تقول إيمان:
تعليم الكبار لا يقتصر على كبار السن بل هو برنامج لمحو الأمية، في القسم أدرس مجموعة من التلاميذ من بينهم من تتراوح أعمارهم من 20 الى 30 سنة ، هم يجهلون القراءة والكتابة ولا يمكنهم استعمال الهواتف الذكية و الأنترنت.
استعمال المنصات الرقمية و التطبيقات على الهواتف الذكية كانت سياسة معتمدة مؤخرا من قبل الحكومة التونسية لتسهيل عمل الهياكل المعنية لكن هذا الأمر لم يرتقي بعد الى درجة عالية من الحرفية حيث تحولت هذه المواقع الى عائق أمام الكثيرين نظرا لحالات العطب الفني الذي يصيبهم في أغلب الأحيان خصوصاً إذا كان عدد المستخدمين مرتفعا في نفس التوقيت ، وهو ما يؤكده كريم الباجي ، مهندس معلوماتية و عامل بإحدى شركات البرمجيات الفرنسية بباريس.
البرمجيات لا تراعي كبار السن و غير المتعلمين و كأنها خصصت لفئات أخرى رغم علم المشرفين بأن مثل هذه الاستراتيجيات قد تكون سببا أساسيا في إقصاء و حرمان الكثيرين من حقهم الطبيعي في الصحة خاصة في هذا الظرف الوبائي.
ويعتبر كريم أن هذا الأمر لا يقتصر على الأطراف الحكومية فقط بل مبادرات خاصة كبعض التطبيقات الإلكترونية لحماية نساء ريفيات أغلبهن غير قادرات حتى على فهم ما يوجد بهذه التطبيقات و لا طريقة استعمالها .
وتعاني هذه المنصات الرقمية التي تخضع عادة لإشراف وزارات مختلفة مثل الصحة والشؤون الاجتماعية وحتى رئاسة الحكومة إلى مشاكل عديدة في برمجياتها. ويرى كريم أن على الدولة مراجعتها و تجاوز هذه الإشكاليات ، فهي في كثير من الأحيان تتحول الى عنصر معرقل في عمل الوزارات والمؤسسات التي تستعملها كذلك أمام مستعمليها من عامة المواطنين.
بالشراكة مع منظمة « صحافيون من أجل حقوق الإنسان » الشؤون الدولية/كندا