21/09/17
“البرويطة” أو العربة النقالة لم تكن وسيلة رفع و نقل و ارتزاق فحسب و إنما تحولت في تونس إلى رمز سياسي و اقتصادي و اجتماعي خاصة بعد ثورة 17 ديسمبر 2010 / 14 جانفي 2011 .
“البرويطة” تلخص اليوم مسارا ثوريا و حركة متمردة لمسار متعرج تخللته هزات ارتجاجية أطاحت بحكومات و خيارات سياسية و اقتصادية زادتها الأزمة الصحية جراء انتشار وباء كورونا تعقيدا فبتنا في وضع استثنائي .
تحت أسوار المدينة العتيقة بسوسة من جهة “باب الجديد “في اتجاه “باب بحر” وصولا إلى “الباب الجبلي” تنتصب فيها العربات النقالة ذات العجلتين في كل مكان.
ينتصب الباعة المتجولون على جنبات المسالك الضيقة يتمددون أمام الدكاكين و الأسواق البلدية و ينتشرون على امتداد الأزقة الفرعية ، يصطفون بشكل منضبط و لكنه تنسيق غير معلن قد تضبطه صراع قوى خفية تتحكم في هذا الجيش” الاقتصادي الموازي .
ومع فقدان الثورة التونسية بهاء حلّتها بعد عشرية حكم تم وصمها بالفشل و التحقت بعناصر الفشل كارثة صحية وبائية هزت الاقتصاد والمجتمع في العمق منذ مارس 2020 بلوغا إلى يومنا هذا. .وباء كورونا الذي أجهز على الفئات الهشة و الطبقات المفقرة فارتفع منسوب البطالة و ساهم في إفلاس الآلاف من المؤسسات الاقتصادية و ألقى بعشرات الآلاف في أتون الصراع من أجل البقاء. لكن ” العربات الناقلة” أو “بالبرويطة” صامدة في الأزقة و الشوارع على قارعة الطريق .
إلياس ( 32 سنة ) أحد الباعة المتجولين صاحب عربة مسطحة ذات عجلتين مطاطيتين ينتصب يوميا في مدخل الباب الجبلي تحت سور المدينة العتيقة ، يضع عربته كل صباح ليستقبل في هذه البوابة المئات من الزبائن الباحثين عن الملابس المستعملة “الفريب” ، خبره في هذا المكان كل نازل إليه و خبر كل الناس النازلين للمدينة العتيقة .
يوم 25 جويلية 2021 كان يقف اليأس من ضمن مجموعة من المحتجين ضد البرلمان، وسط المدينة و قد أبدى استياءه من الوضع السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي الذي حل بالبلاد و كان تواقا لأن يتغير المشهد نحو الأفضل ، كانت كاميراتنا ترصده ملوحا بالشعارات المناهضة للنظام كغيره من عشرات الشباب المتوافدين على ساحة حقوق الانسان بسوسة .
التقينا الياس بعد خمسين يوما من إعلان التدابير الاستثنائية في المكان نفسه الذي اعتاد الوقوف فيه منتصبا بعربته الصغيرة فقال
حكايتي مع البرويطة بدأت منذ أن بلغت سنّ السادسة عشرة عندما انقطعت عن الدراسة في إحدى الأرياف وسط تونس، وقمت بالالتحاق بأبناء أعمامي في تجارة الملابس المستعملة “الفريب” ، كنت أجوب الأسواق في أنحاء عدة من البلاد و علمتني البرويطة الصبر و الثبات.
مهما كان الطقس، وكيفما كانت درجة الحرارة يقف إلياس بجانبه عربته لا يبرحها منتظرا زبائنه بابتسامة المتطبع في دخل “مستور”. يحدثنا عن مقاومته لفكرة وجود فيروس كوفيد19 واستفحال انتشاره، وأن تصديقه لهذا الأمر سيقف باب رزقه ويجعله خائفا من الخروج إلى الشارع والاختلاط.
ظللنا أشهرا نقاوم البروتوكولات و الإجراءات الحكومية معتقدين أن هذه الإجراءات جاءت لتقطع علينا طريق الرزق ، كان الموت ينتشر بيننا و خاصة في شهر أوت و جويلية الفارط حتى فقدنا بعض أعزائنا و لكن إصرارنا على الارتزاق فاق خوفنا من الموت ” .
يؤكد إلياس أنه في شهر أفريل 2020 خلال الحظر الصحي الشامل اختفى جميع الباعة المتجولون لمدة وجيزة بعد مطاردات وصفها بالشرسة من طرف وحدات الشرطة البلدية المعززة بهياكل المراقبة الصحية، لكن لم يكن الأمر كذلك في الحظر الصحي الشامل الأخير اعتقادا منهم أن انقطاعهم عن العمل يعني الموت المحقق والجوع. كما يعتقد الباعة المتجولون أن الإجراءات المتخذة لم تكن عادلة في تطبيقها بين مختلف فئات المجتمع.
صمودنا أمام هذه الإجراءات جعل السلطات تتراجع عن تنفيذ البروتوكولات و لو بشكل جزئي.
في الان نفسه أكد الشاب الياس وعيه بمخاطر الانتصاب زمن الكورونا و إمكانية إصابته بالعدوى خاصة وأن الملابس المعروضة عرضة للمس من المئات من الزبائن و مباشرته لهم عند الابتياع قد تصيبه بالمرض، غير أن العشرات من الباعة مثله قد آثروا البقاء رغم تعرضهم لعقوبات حجز سلعهم عديد المرات. عرباتهم/نَّ المتنقلة وسيلة للهروب بسرعة داخل الأزقة الضيقة كلما اشتد عليهم الحصار.
أما “بنت المنوبي”، أسم مستعار 30 سنة، وهي إحدى الصبايا اللاتي ينتصبن قريبا من الجامع الكبير بسوسة بعربة نقالة تختص في طبخ الشاي و إعداد أكلات خفيفة زهيدة الثمن. التقيناها عديد المرات في أماكن مختلفة وهي تستعين بساعديها ليس على إعداد السندويشات و كؤوس الشاي فقط بل لدفع العربة بقوة نحو الأزقة كلّما أتتها الشرطة البلدية لمنعها من مزاولة هذا الانتصاب الفوضوي في أماكن كانت بالأمس القريب محل زيارة الآلاف من السياح .
وتقول بنت المنوبي:
انقطعت عن الدراسة و لا عائل لي بعد وفاة والدي، بمساهمة من أهل الخير اقتنيت هذه العربة حتى أقتات من مداخيلها المتواضعة، أتنقل بها من مكان إلى آخر حول أسوار المدينة منذ سنوات ليست ببعيدة وقبل حتى هجوم الوباء على حياتنا.
تطهو بنت المنوبي الشاي وتعد سندويتشات “التن و الهريسة” ، لكن خلال انتشار جائحة كوفيد19 تقول أن تجارتها صارت بائسة و مداخيلها محدودة، إذ أنها لم تستطع التقيد بالبروتوكولات الصحية في بيع المنتجات الغذائية.
لست قادرة اليوم حتى على شراء الأكواب الورقية و لا أستطيع تحمل مصاريف إضافية لحماية “البرويطة. ها نحن اليوم نخاتل السلط البلدية من أجل لقمة العيش و لكن شريحة واسعة من المواطنين لا تزال خائفة من العدوى، فكلما اشتد الوباء و ارتفع عدد الإصابات، ركنا إلى البطالة القسرية و كلما خف الوباء عدنا إلى العمل باحتشام.
القصة الثالثة تروى على لسان “عٌمر”، اسم مستعار، 50 عاما، ووهو أحد أقدم المنتصبين في نهج فرنسا تحت أسوار المدينة العتيقة في مدينة سوسة، يبيع الألبسة من القماش على متن عربته النقالة الصغيرة.
كان عمر ينظر إلينا بارتياب فهو لا يثق في الصحفيين و يخشى مخلفات الانتاجات الصحفية التي تحمي هويته، ولا تخفيها، و التي تنتهي عادة بمحاصرة المكان الذي يقف فيه من طرف السلط البلدية و المراقبة الاقتصادية.
” هذه”البرويطة ” التي تراها اليوم في هذا النهج العتيق تقع تحت أنظار كاميرات المراقبة التي تنتصب فوق رؤوسنا، الكاميرات الحكومية المنتشرة هنا و هناك تنقل الصورة مباشرة حتى وإن حصل بيننا بيننا تآلف وتحابب. يقول عمر مازحا.
يؤكد عمر أن السلط البلدية تراقب تفاصيل انتصابهم وممارستهم تجارتهم بشكل لصيق و وتعلم عن الباعة المتجولين كل شء بدء من ساعة وقوفهم مرورا بالسلع التي يبيعونها وصولا حتى إلى هويات الزبائن. ويشير عمر إلى أن جائحة الكوفيد ألقت بظلالها على مردودية العمل وباتت المداخيل زهيدة.
يشير عمر إلى أنه في مراحل الذروة من انتشار جائحة كوفيد19 و خلال الحظر الصحي الشامل خلا المكان الذي يقف فيه وعربته، من كل مظاهر التجارة و اقتصر الابتياع داخل الأسواق البلدية التي تعرضت في بعض الفترات إلى الغلق الاجباري. مما تسبب له ولنظرائه في أزمة أزمة مالية خانقة يعاني من تبعاتها إلى اليوم. ا
أصبنا بالإحباط عندما خوت بطوننا و و ضاع رزقنا و لم تلتفت إلينا الدولة، لكن لا مفرّ فإما التمرد و إما الموت بالوباء. فعلى الرغم من التضييق علينا بسبب البروتوكول الصحي نحن اليوم لا نخشى المطاردات بسبب الانتصاب الفوضوي فهذا خطر جاثم ..و إنما نخشى الخطر الصحي الداهم.
مستعملا عبارات سياسية يتداولها رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيد.
و يقول عمر : ” لا أخفيكم سرا إن قلت لكم أن زمن الكورونا كان قاسيا علينا و لكنه غذى الظلم الاجتماعي والتفاوت الطبقي فصرنا نرى الموظف الحكومي كائنا مرتفعا عنا و شعرنا بالغبن الاجتماعي ، و هذا ما خلف النقمة عند العديد من “البراوطية” ( حسب تعبيره) ..و عانينا من مشاهد مخجلة خلال تطبيق البروتوكولات الصحية بشكل غير متوازن و غير عادل ” .
هكذا كانت بعض الشهادات التي تلقيناها من باعة “البرويطة” في سوسة زمن الكورونا.
“البرويطة” برمزيتها الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية في تونس واجهت موجة من الترذيل و الاستهجان من فئة لا تؤمن بالثورة، إبان حادثة محمد البوعزيزي في 2010 التي جسدت رمزية العربة النقالة أو “البرويطة حيث انطلقت أصوات تضيف البرويطة للثورة حتى تبلّغ معنى الاستهجان و هم غالبا من أنصار النظام القديم أو ممن خسروا مواقعهم في نظام جديد وصفوه بالهجين.
تم إخفاء الهوية الحقيقية للمتحدثين/ات بطلب منهم، حماية لمعطياتهم/ن الشخصية وسلامتهم/ن الجسدية
بالشراكة مع منظمة « صحافيون من أجل حقوق الإنسان » الشؤون الدولية/كندا