كشف


تونس سعيّد: “مَا أكبرَ الفكرة.. ما أضيقَ الدولة”/رأي

21/10/11

كانب وأكاديمي، مدرس بمعهد الصحافة وعلوم الأخبار

مقال رأي-نصيبي من الحقيقة

ولكنْ مع هذا الحقّ في نقد معايير وكالات التصنيف، يستيقظ عقل الدولة البارد، ليضع إكراهين اثنين، الأوّل أنّ هذا التصنيف هو بمثابة الإكراه المعياري للمؤسسات النقدية الدولية التي تُقرض تونس, وبالتالي فهو ضرورة وإن ارتأينا فيه الضيم والضرر، والثاني أنّ الذي ينتقد عادة يمتلك البديل المؤقت والدائم عن منظومة “التصنيف والإقراض”.

لم تُخطئْ العبارةُ المتربعة على عرش قصيدة في مديح الظلّ العالي للشاعر الراحل محمود درويش، إصابةَ حقائقَ التاريخ واستجلاء إكراهات الرّاهن.

ففي رحلة الشتات الفلسطيني من بيروت إلى تونس، بعد حصار بيروت ومضايقة الجغرافيا للحقّ وتضييق الأخ القريب لهامش التحرّك على مناضلي منظمة التحرير الفلسطينية، وقف محمود درويش في خُطبة الوداع بلا طواف، قائلا ” ما أوسع الثورة، ما أضيق الرحلة ،ما أكبر الفكرة، ما أصغر الدولة”.

ولأنّ الدولة في التعريف القانوني وفي القانون الدولي، حدودٌ، حدود جغرافية وحدود سياديّة وحدود لغويّة، فهي أيضا حدود سياسية واقتصادية واجتماعية ودولية لِمَا يُمكن إنجازه ضمن “المُتخيّل” إنجازه من قبل الفاعل السياسي. 

يختار العارفون بالعلاقات الدولية عبارة “إكراهات الدولة” للدلالة على حدود التحرّك أو على تُخوم السيادة، و يجترحون لذلك أوصافا معياريّة، للحاكم أو المسؤول أو السياسي القادر على فهم و استبطان هذه الإكراهات ويُحسن التعاطي معها، ويُتقن المشي في حقول ألغامها. 

باتتْ الإكراهات متلازمة مع فكرة الدولة، في ظلّ العولمة وتشبيك العلاقات الاقتصادية وتاريخ الجوار وبفرط القوّة الناعمة وفعل التأثير المتبادل بين “الداخل” الذي لم يعد داخلا، و”الخارج” الذي لم يعد بدوره “خارجا” أصلا.

وفي الأثناء، كانت لأفكار قيس سعيّد قبل الانتخابات الرئاسية وأثناءها وبعدها، القدرة على إثارة الاهتمام من خلال تأهيلها النسبي على تحريك المسلمّات التي ظهر أنها قاصرة على معالجة الواقع السياسي والاقتصادي الخطير والمتعفّن، (الديمقراطية القاعدية في مقابل التمثيلية، الوكالة في مقابل التصويت المناسباتي، دستور الجدران في مقابل دستور 2014، تجريم التطبيع في مقابل “الواقعية الوُقوعية” العربية”).

كما كانت هناك أفكار وجزء من قرارات وإجراءات 25 جويلية، – قلنا جزءا لأنّ عددا من القرارات أخذت طابع التضييق على الحريات الخاصة والعامّة وتجاوز منطق ومنطوق الدستور- تصبّ في خانة “المستحدَث المرغوب” من قبل شريحة معتبرة من الرأي العامّ تودّ تطبيقا فعليا لمقولة “معاقبة الفاعلين السياسيين” وملاحقة المنظومة الأخطبوطية العقيمة الحاكمة للبلاد والبلاد منذ 2011، وملاحقة الجيل الجديد من الورثة الشرعيين لمصطفى بن إسماعيل ولمصطفى خزندار. 

وفي الوقت الذي كان خطابُ الرئيس قيس سعيّد يتحدّث عن “تاريخية” اللحظة السياسية وتاريخية القرارات القائمة والقادمة، وعن قدرتها على قلب الأوضاع رأسا على عقب، وعن ضرب “هِمْ” في أعماق الأعماق، كانت الهوامش التقليديّة وإكراهات الدولة تتحرّك وتقوَى باطّراد.

وفي الوقت الذي كان الرئيس قيس سعيّد، يخطب في “الوجدان” المشترك، ويتحرّك في الجموع المحتشدة وراءه في شارع الحبيب بورقيبة أساسا وفي كافة أماكن تجواله وتطوافه، وهي جموع صادقة ومتألمة من فرط ما عانته خلال هذه العشرية والعشريات السابقة لها أيضا، فإنّ عقل الدولة البارد كان يفرض صوته في المشهد السياسي، قبل أن يفرض واقعه. 

ولئنْ كان الشعار السياسي مطلقا في الأحياز الزمنية والمكانية والمسلكيات الكيفية، فإنّ عقل الدولة البارد يتمحور حول سؤالين اثنين “كيف؟” و”متى؟”.

فمقولة الإصلاح السياسي أو الاقتصادي أو الانتخابيّ أو الاجتماعي، لا تُهضم في عقل الدولة والدولة هنا مطلقة، إلا إذا اقترنت هذه المقولة بإجابة واضحة وجلية عن سؤاليْ “كيف؟” ومتى؟”،     

ودون هذين السؤالين، يبقى الشعار مقولات سياسية استهلاكية صالحة للتجييش والحشد التعبئة بالمعية أو الضديّة، ولكنْ عاجزة عن إقناع “التنظيم السياسيّ المهيكل” والمسمّى بالدولة. 

مثّل هذان السؤالان، إرهاقا مزعجا، لقيس سعيّد وللفريق العامل معه، فالدولة في عقلها البارد والقاسي، لا تستوعب “النقض” دون إبرام، ولا تفهم “العزل” دون بديل حاضر، ولا النفي دون تأكيد.

وهنا كانت الأسئلة التوضيحية والاستفسارية تحاصر “مشروع” قيس سعيّد، بدءًا بالإصلاح الاقتصادي إلى الحوار السياسي إلى خارطة الطريق القادمة، إلى تشكيل الحكومة ومنها إلى ملفات المساءلة والمحاسبة..

وفي غالبية الملفات، كان قيس سعيد يتحدث عن الشعار، ويضيع في التفاصيل، والتفاصيل في عمقها هي عقل الدولة، وبالوقت اتضح أنّ للرئيس مشروع بلا برنامج، ورؤية دون تفاصيل، ومقاربة دون خطوات، وهو بالضبط ما يُفسّر تأخر تشكيل حكومة السيدة نجلاء بودنْ، والتأخير في إعلان الحوار الوطني (شكلا ومحتوى)، والضبابية في تقديم خارطة الطريق للفاعلين المحليين والإقليميين والدوليين. 

والحقيقة، انّ لقيس سعيّد، بعض الأجوبة عن “كيف؟” دون “متى”، ولكنّها أجوبة قد لا ترضي في جوهرها الشركاء الاقتصاديين والتقليديين للدولة التونسية، ولا تنضبط لمعاييرهم سيما تلك التي وضعتها لدعم بلدان الانتقال الديمقراطي في الفضاء العربي. 

ومن حق قيس سعيد والفريق العامل معه، كل الحقّ في التشكيك في معايير التصنيف وفي مقاييس الإسناد، وهي معايير في الغالب “سياسية اقتصادية”، حيث يُوظّف البُعد السياسي لخدمة الاقتصاد، والكثير من الدراسات العلمية المحكمّة والمعتبرة بل والكثير من المسؤولين الإقليميين والدوليين، رفضوا هذه المعايير غير المعياريّة… 

ولكنْ مع هذا الحقّ في نقد معايير وكالات التصنيف، يستيقظ عقل الدولة البارد، ليضع إكراهين اثنين، الأوّل أنّ هذا التصنيف هو بمثابة الإكراه المعياري للمؤسسات النقدية الدولية التي تُقرض تونس, وبالتالي فهو ضرورة وإن ارتأينا فيه الضيم والضرر، والثاني أنّ الذي ينتقد عادة يمتلك البديل المؤقت والدائم عن منظومة “التصنيف والإقراض”.

والحقيقة أنّ لا مؤشر في الافق، يُثبت أنّ الدولة التونسية تريد استبدال الشركاء الاقتصاديين نحو شركاء آخرين أكثر ثراء وسيادة وأقلّ شرطا وفجاجة، أو تغيير المنوال التنمويّ الحاكم نحو آخر يُعمم الثورة ويُؤمم الثروة ويدعم الرأس المال الوطني ويخرج البلاد من اقتصاد الريع القائم. 

هذا، دون الإشارة إلى استحالة قيام حوار وطني حقيقيّ ونافع للبلاد والعباد، دون مشاركة فاعلة من القوى الرمزية الحقيقية وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل.. والمنظمات الوطنية المعروفة الأخرى. 

الآن، إن كانت هناك من خارطة طريق تخرج البلاد والعباد من الحالة “اللا أدرية” الخانقة، ومن مشهدية مكاسرة الساحات والفضاءات الأسبوعيّة، ومن احتراب الخطاب السياسيّ الخطير والمؤشر لتداعيات مُظلمة، فهي الاستيعاب العميق بأنّ أسئلة الدولة العميقة لا تجيب عنها، سوى التشاركية العريضة، والحوار الوطني الحقيقي الجامع المانع، والسعي إلى بناء عقد اجتماعي وسياسي جديد، وهو ما نحتاجه سريعا قبل سقوط الجدار على كافة الرؤوس، وبلا استثناء. إلا أن رئيس الجمهورية قد اختار اليوم الحادي عشر من أكتوبر التأكيد على أن الحوار سيكون ” مع الشباب في كل الجهات” الإعلام عن تشكيل حكومة لا نستطيع مساءلتها  إلا في شخصه،  بموجب الصلاحيات الواسعة التي منحها لنفسه بالأمر عدد 117.