21/10/19
لم يكن انتشار جائحة كورونا في تونس مجرد زائر ثقيل عابر على مرّ سنتين منذ ظهوره في مارس السنة الفارطة بل وباء خلّف و لا يزال وراءه تداعيات خطيرة على سلامة النفس البشرية و أطاح بالمنظومة الاقتصادية و أصاب شللا في المنظومة الصحية و خللا في التماسك الاجتماعي و أثر على الأفراد و الأشخاص و الأسر و تسبب في اختلال النموّ .
و لجائحة كورونا ضلع في التداعيات السياسية التي أفرزت إعلان التدابير الاستثنائية و تفعيل الفصل 80 و شكلت الأزمة الصحية عنوانا للأزمة و اعتبرت “الخطر الداهم” فأصابت المؤسسات و الهيئات و أثرت على الحقوق و الحريات ، كما تسببت في أزمة مالية عجزت تونس عن تداركها مما دفع مؤسسة التصنيف المالي موديز إلى الرفع من درجة المخاطر و النزول بتونس إلى Caa1 مما يؤدي إلى ازمة اقتراض مالي دولي حقيقي تؤثر على الاقتصاد الوطني و المقدرة الشرائية للمواطن .
الأسرة التونسية و إن لمست تحسنا في الوضع الوبائي و الصحي و استقرارا نسبيا على مستوى الإصابات بعد تراجعها فإن التداعيات الاقتصادية و خاصة فيما يتعلق بالمقدرة الشرائية لا تزال تلقي بضلالها على جيب المواطن و قد تناولنا خلال هذا التقرير شهادات من الشارع التونسي و من شرائح مجتمعية مختلفة لبيان مدى عمق تأثيرات الجائحة التي عمقت الأزمة الفعلية السابقة لها .
” وسيلة” ، عاما صاحبة متجر لبيع المواد الغذائية في حي شعبي بمدينة الساحلين الساحلية ، تجلس وراء المصرف لتستقبل زبائن الحي من الصباح الباكر حتى المساء، كانت معدل الشراءات للفرد الواحد تتفاوت بين مائتي مليم ( سعر الخبز) لتصل إلى نحو عشرين دينارا ( معدل شراءات يومية للحريف ) ، و حدثتنا وسيلة عن تجارتها في السنتين الأخيرتين :
استقبلُ يوميا الحرفاء و جلّهم تقريبا من سكان الحيّ ، و لا أخفيكم أن أغلبهم من الموظفين و سكان البنايات الحديثة و بعضا من سكان الحي القديم المجاور الذي يظم فئات اجتماعية هشّة ، و لكن كلّهم بالنسبة لي سواء فقد رافق أغلب الأشخاص، كرني الكريدي ( كنش التداين).
تؤكد وسيلة ان كل الشرائح الاجتماعية في حيها تتبضع منها عبر كنش التداين، فلا الموظف العمومي و لا العامل صار يستغني عن هذه الآلية في اقتناء المستلزمات الضرورية لمعاشه.
كنا في السابق نقتصر على فتح حساب لبعض الأفراد و العائلات محدودة الدخل و لكن اليوم بعد الجائحة صار الجميع سواسية.
وأضافت وسيلة:
عزاؤنا الوحيد في استعمال “كرني الكريدي” هو الثقة المتبادلة بيننا و بين حرفائنا و الأمل في الخلاص عند خلاص أجورهم من منظوريهم ، وهذه الآلية لم تحجب الأزمة بل أجلتها فقط فصرنا نتعرض في بعض الحالات إلى العجز عن استخلاص الدين “.
أما “إيناس” وهي إحدى الحريفات التي تقتني مشترياتها بكنش التداين التقيناها في المتجر فكشفت عن كونها موظفة حكومية و قالت :
رغم أنني موظفة من سلك التعليم و أم لثلاثة أطفال و زوجي يعمل في القطاع الخاص فإن أعباء الحياة صارت اليوم أثقل و قد تأثرنا من جائحة كورونا التي انعكست سلبا على مقدرتنا الشرائية مما يضطرنا إلى الالتجاء إلى متجر الحي الصغير أملا في أن نتمّ مصاريف الشهر بالاقتراض منه ( شراء بالتأجيل) ، و لم نكن أبدا على هذه الحال.
يتفاقم العجز الاقتصادي لعائلة ايناس تزامنا مع العودة المدرسية و الزامية توفير معلوم كراء الشقة ومصاريف السيارة و سداد القرض البنكي، بالإضافة إلى الاستهلاك اليومي، وهو ما جعل العائلة تواجه ضائقة مالية حتمية .
إن تأثيرات كوفيد 19 كانت بالغة على الفئات الاجتماعية الأكثر هشاشة في تونس و ساهم في ازدياد حدة الفقر على أربعة مستويات ” الدخل الناتج عن العمل، الدخل الناتج عن مصادر غير العمل، والتأثير المباشر على الاستهلاك، وتعطل الخدمات” حسب دراسة وقع نشرها في مدونات البنك الدولي أواخر 2020 .
و قد خلصت الدراسة إلى حصر نسبة نمو سلبية بين -8.8 % و -11.9% و هو السيناريو الأسوأ . في حين من المتوقع أن ترتفع نسبة الفقر بـ 7.3 نقطة مئوية في ظل السيناريو المتفائل وبنسبة 11.9 نقطة مئوية في إطار السيناريو المتشائم ” .
و قد توقع الخبراء ارتفاع نسبة الفقر بين 7.3 % و 11.9 % في أسوأ الحالات و هذا من شأنه أن يوسع دائرة الأسر المهددة بالفقر جراء الجائحة و خاصة في مناطق الوسط الغربي و اجنوب الشرقي التونسي الأكثر عرضة للفقر و لعل ” النساء اللاتي يعشن في أسر كبيرة ولا يتمتعن بالرعاية الصحية ويعملن دون عقود “سيكون أكبر ضحايا هذه الأزمة .
غير بعيد عن مدينة الساحلين و في قرية مجاورة من ولاية المنستير وهي ” مسجد عيسى” التقينا صاحب دكان صغير، “احمد” (اسم مستعار) و أعرب لنا عن ضائقته قائلا:
فتحتُ هذا الدكان أملا في بعض القوت في هذه القرية الصغيرة غير أنني لم أوفّر منها شيئا فالمقدرة الشرائية ضعيفة جدا هنا و قد استغنى غالبيتهم عن الاقتناء من هنا لأنهم يلجأون إلى المدن المجاورة أين تنتشر المغازات المتوسطة و الكبرى .
ويشير أحمد إلى أنه على خلاف دكاكين أخرى في البلدة فقد ازدهرت تجارته خلال فترة الحجر الصحي الشامل و الموجّه باعتبار أن السكان هنا لا ينتقلون خارج البلدة و يفضلون اقتناء المواد الغذائية من أقرب محلّ لهم ، و لكن بالرغم من ذلك لا يتبضع من دكانه الا القليل من ولا يجني أرباحا جيدة يوفر منها وتغطي مصاريف الدكان.
ويضيف أحمد :
على الرغم من توفر مصنعين في قطاع الملابس بالجهة يدفع بعض العاملات إلى أن يكنّ من زبائني عند خروجهن فترة الراحة بين الحصّتين مما يساهم في تعزيز الدخل اليومي، لكن أغلبهن يقتنين بضائع رخيصة .
“أسماء” إحدى العاملات اللاتي يشتغلن في مصنع الملابس الجاهزه التقيناها في المتجر أعربت عن تأثرها بأزمة كوفيد على مستوى المقدرة الشرائية و هي التي تعيش في منزل على وجه الكراء مع ثلاثة من الفتيات .
تقول أسماء:
إنني و زميلاتي نمثل شريحة واسعة من صنف العاملات اللاتي يشتغل في الوحدات الصناعية المتصلة بالنسيج و غيره في الساحل ، أغلبنا يقطن في منازل بشكل جماعي لنوفر سكنا بأقل التكاليف و نعمل بأجور زهيدة من أجل لقمة العيش ، نعيش مشاكل حياتية عديدة نظرا للظروف الاجتماعية القاهرة و أغلبنا أصيل مدن داخلية “
تشير أسماء إلى أن أزمة كوفيد قد ألزمت المئات التأقلم مع البطالة المؤقتة وآخرين سقطوا في بئر البطالة الدائمة وهو ما جعل الجميع يعيش في جحيم اقتصادي على حد تعبيرها. نظرا لعدم التزام المؤجر بالخلاص.
قد يدفع عددا منا إلى التسول و الاقتراض و ربما العودة إلى مسقط رأسه اضطرارا ” .
و يذكر أن ولاية المنستير تضم عددا متواضعا من العائلات المعوزة التي تحتاج إلى المساعدات الاجتماعية غير ان هذا العدد من العائلات زاد في الفترات الأخيرة لأن ولاية المنستير لها عدد كبير من المهاجرين من الوسط والوسط الغربي للبلاد التونسية، و تعتبر وجهة بحثا عن ظروف معيشية أفضل ففي سنة 2017 قامت ولاية المنستير بإيواء 6355 عائلة محتاجة استفادت من منح من وزارة الشؤون الاجتماعية وفق تقارير المعهد الوطني للإحصاء.
و يتأكد الدور الهام للقوى العاملة النسائية في اقتصاد ولاية المنستير من خلال دراسة توزيع السكان النشطين حسب الجنس والفئة العمرية في 2014 .حيث يكون كتلة العاملات أكبر من كتلة العمال الذكور ، خاصة بالنسبة (للفئة العمرية 20-29 سنة )52966 إناث مقابل 50404 من الذكور( والفئة العمرية 30-39 سنة )41156 إناث مقابل 39767 ذكور.
و تعتبر العاملات من الفئة العمرية ما بين 20-29 و30-39 أكثر الفئات جذبا لصناعة النسيج ، وهي منتشرة على نطاق واسع في محافظة المنستير ، ولذلك فإن أعدادهم أعلى من أعداد الذكور لنفس الفئة.
يفسر جزء كبير من القوة العاملة النسائية أيضا بالهجرة بين الولايات ، وهو ما وفر لولاية المنستير أغلبية ناشطة تتراوح أعمارها بين 20 و40 عاما ، ويأتي معظمها من ولايات الوسط الغربي للبلاد. ( إحصائيات المعهد الوطني للإحصاء 2014 ) .
و يمكن الإشارة إلى أن عملية صرف المساعدات المالية الظرفية الاستثنائية المقدرة ب300 دينارا في إطار التصدي العاجل لكوفيد 19 لا تزال متواصلة في الجهة وفق المنظومة و لكن هذه المساعدات لم تكن كفيلة بأن تنقذ شريحة واسعة من المواطنين و المؤسسات من تجنب شبح الخصاصة و الإفلاس كما اعتبرها البعض حلولا “مؤقتة” فحسب .
وتجدر الإشارة إلى أن المصالح الفنية لوزارة الشؤون الاجتماعية قد تمكنت ” إلى غاية يوم الأربعاء 13 أكتوبر 2021 من صرف المساعدات لفائدة 793342 عائلة باعتماد جملي قدره 238 مليون دينار وسيقع استكمال بقية المنتفعين الذين يستجيبون لمقاييس الانتفاع خلال الأسبوع القادم بعد استكمال عملية التثبت وإجراء التقاطعات اللازمة” حسب بلاغ لوزارة الشؤون الاجتماعية نشرته أمس الجمعة .
بالشراكة مع منظمة « صحافيون من أجل حقوق الإنسان » الشؤون الدولية/كندا