كشف صحي


كوفيد19 وجاذبية العمل عن بعد: آثار صحيّة سلبية على المدى الطويل

21/10/22

فرض انتشار وباء الكوفيد 19 في العالم مجموعة من التدابير الوقائية مثل التباعد الجسدي والحجر الصحي وتقييد حركة التنقل إلا للضرورة في محاولة للسيطرة على العدوى.

إجراءات التباعد الجسدي دفعت بالكثير من الشركات إلى اعتماد نظام العمل عن بعد وصار الموظفون في عدد كبير من الدول يداومون من بيوتهم، وذلك حتى يتجنب أصحاب المؤسسات خسائر أكبر جراء الغلق والحجر الصحي في كل مرة.

ورغم منافعه على المناخ والبيئة وزيادة الإنتاجية، فإن للعمل انطلاقا من البيت لفترة طويلة انعكاسات سلبية على الصحة يتجاهلها الكثير من الموظفين الذين يفضلون الاستمرار في اعتماد نفس النظام حتى بعد انتهاء الوباء.

نظام العمل عن بعد ليس جديدا وإنما يعود إلى فترة السبعينات التي تأثرت بأزمة النفط، حيث اضطر عالم الناسا الأمريكي جاك نيلز إلى العمل عن بعد عبر نظام اتصالات معقد تابع لوكالة ناسا الأمريكية، بسبب الموارد المحدودة والتشابك الشديد لحركة المرور، في ذلك الوقت.

 استطاع نيلز العمل عن بعد من لوس أنجلس إلى واشنطن على البرنامج الصاروخي للولايات المتحدة، وكان يزاول مهمة التدريس في جامعة كاليفورنيا، حتى أطلق عليه لقب “أب العمل عن بعد”.

أما في تونس فالعمل عن بعد كمفهوم قانوني ليس موجودا وإنما هي تجربة خاضتها الإدارة التونسية مضطرة، كإجراء احترازي للتوقي من تفشي فيروس “كورونا” المستجد، في محاولة لتمكين موظفين من مواصلة عملهم أو جزء منه خلال بقائهم في منازلهم في فترة الحجر الصحي، وفق الإدارة الالكترونية برئاسة الحكومة.

فقد أقرّت رئاسة الحكومة، في 23 مارس 2020، أمرا حكوميا ينص في فصله السابع على أنه بإمكان رؤساء الهياكل الإدارية، ترخيص العمل عن بعد لبعض الأعوان الراجعين لهم بالنظر، وذلك بالنسبة للأعمال التي لا يتطلب تأمينها الحضور الفعلي بمقرات العمل.

ورغم فضائله الكثيرة مثل الحد من تلوث الهواء بعوادم السيارات وزيادة القدرة الشرائية للأسر عبر التقليل من استهلاك الوقود والخفض من الوقت الضائع في القيادة أو وسائل النقل، يحتوي العمل عن بعد الذي تنامى خلال فترة الوباء على العديد من العيوب التي تطال الصحة البدنية والنفسية والتوازن الاجتماعي للأفراد.

الآثار الصحية لنظام العمل عن بعد

يصنف تقرير نشرته المجلة الدولية للرعاية الصحية أضرار العمل عن بعد إلى أربعة أنواع:

مشاكل العضلات والعظام والعزلة والاكتئاب والإرهاق.

وذكر التقرير أن العمل لساعات طويلة على الكمبيوتر من البيت يرتبط عادة بوضعية ثابتة لوضعية الجلوس و الساعد والمعصم وهو ما يتسبب في آلام حادة في الظهر والرقبة والكتفين واليدين.

وتعني طبيعة العمل عن بُعد أن العاملين لا ينشؤون علاقة عمل اجتماعي مع زملائهم وهو ما يمكن أن يسبب الشعور بالوحدة والعزلة. 

وأشار التقرير أيضا إلى أن الإجهاد أو الإرهاق يرتبطان ارتباطا وثيقا بأمراض القلب والأوعية الدموية ومرض السكري من النوع 2 والتوتر والاكتئاب.

يقول دكتور هيثم بن علي، أخصائي أمراض وجراحة العيون، لكشف ميديا: 

لاحظت ارتفاعا كبيرا في عدد المرضى الذين يشتكون من تراجع حدة البصر والصداع وضبابية الرؤية، منذ النصف الثاني لعام 2020 إلى غاية اليوم.

ويرجع الدكتور هيثم العدد الكبير للمرضى إلى كثرة المكوث في البيت والعمل عن بعد وقضاء أوقات طويلة أمام شاشة التلفزيون والهواتف الذكية والكمبيوتر، منذ ظهور الوباء.

ويفسر في افادته قائلا:

كثرة استخدام الهواتف الذكية والشاشات تضعف التركيز وتؤثر بشكل كبير على العينين. ومع ذلك لا ندرك بعد ما قد تكشفه الدراسات العلمية مستقبلا، ما إذا كان تراجع النظر يمثل أحد أعراض ما بعد الإصابة بالكوفيد أو لا.

وتمكنت كشف ميديا من استجواب إحدى المرتادين لعيادة الدكتور هيثم وهي سيرين زروق، التي تعمل في قطاع الاتصالات وتبلغ من العمر أربعين عاما.

تقول سيرين: 

رغم أن عملي يرتكز أساسا على الكمبيوتر منذ سنوات، لم أكن أشتكي من أي أوجاع حادة إلى أن خسرت وظيفتي مع بداية اكتشاف الكوفيد 19 في تونس، فاضطررت في ذلك الوقت للبقاء في المنزل والعمل عن بعد لأكثر من مؤسسة.

وتابعت:

لم تعد نظاراتي الطبية السابقة تفي بالغرض وازدادت حدة الصداع وصرت لا أقدر على الرؤية بوضوح عن بعد.

سارعت سيرين باستشارة طبيبها الدكتور هيثم لتعديل نظاراتها بشكل يلائمها أكثر ويخفف عنها آلام الرأس المرتبطة بإجهاد العينين.

الآثار النفسية والعقلية للعمل من البيت لفترة طويلة

أفادت شركة الأبحاث والدراسات الدولية Oracle & Workspace Intelligence بأن 75 بالمئة من الموظفين في فرنسا يقولون إن الوباء كان له آثار سلبية على صحتهم العقلية، 40 بالمئة منهم يعانون من قلة النوم و35 بالمئة يشتكون من تراجع الصحة البدنية و28 بالمائة منهم يعانون من العزلة الاجتماعية.  

تقرير عن العمل عن بعد في جريدة le Monde

كما كشفت دراسة أنجزها “المعهد الوطني للإحصاء”، لمتابعة التأثير الاجتماعي والاقتصادي لـ”كوفيد – 19″على الأسر التونسية خلال الفترة الممتدة من 29 أفريل إلى 8 ماي 2020، أن العمل عن بعد شمل واحدا من كل عشرة من الأجراء الذين استطاعوا مواصلة العمل خلال فترة الحجر الشامل.

وفي الوقت الذي توصلت فيه الدراسة إلى أن ثلثي الأجراء المستجوبين قد توقفوا عن العمل، تبين أن القدرة على تحويل العمل الحضوري إلى العمل عن بعد ترتفع مع ارتفاع مستوى العيش لتصل الى حوالي أجير من ضمن ثلاثة أجراء بالنسبة للشريحة الأكثر غنى.

يذكر أن هذه الدراسة، التي تم إنجازها بالتعاون مع “البنك العالمي”، قد شملت عينة من 1369 أسرة تمثل السكان التونسيين حسب فئاتهم الاجتماعية ومستويات الدخل على المستوى الوطني.

تقول حنان البختي، موظفة بشركة مبيعات خاصة وأم لطفلين، لكشف ميديا: 

أباشر عملي من البيت، منذ شهر ماي 2020. بدأ التغيير جيدا في البداية ولم أعد مضطرة للنهوض ساعة قبل موعد الدوام.

وتشير إلى أنه مع  مرور الأيام والاضطرار للعناية بطفليها خلال فترات الحجر الصحي المتكررة، علاوة على القيام بشؤون البيت والطبخ، باتت تشعر بأنها  حبيسة روتين قاتل وعزلة لا نهاية لها.

وأردفت:

 أنا وجميع زملائي نعمل إلى اليوم من بيوتنا و نعقد اجتماعاتنا عبر الانترنت وقد حرمنا من الساعة المخصصة للغداء، في منتصف النهار.

وتقول حنان إن كثرة المكوث في البيت والعمل لساعات أطول أرهقها نفسيا بشكل كبير وانعكس ذلك حتى على تعاملها مع أفراد أسرتها لأنها أصبحت سريعة الغضب كثيرة الانزعاج من كل شيء.  

مع ذلك تصر حنان على رغبتها في استمرار العمل عن بعد قائلة: 

رغم كل المشاكل التي أعاني منها جراء متابعة أعمالي من البيت لا أرغب في العودة إلى الدوام من المكتب واستئناف رحلة الذهاب والعودة وضغط حركة المرور مجددا.

وهو ما يحيل على تقاطع مع دراسة أجرتها هيئة الإحصاء الكندية في أفريل 2021 أنه من بين العاملين الجدد عن بعد، 80 بالمئة يرغبون في العمل على الأقل نصف ساعاتهم في المنزل بمجرد انتهاء الوباء. ويود 41 بالمئة منهم العمل لنحو نصف ساعاتهم في المنزل والنصف الآخر في مكان آخر، بينما يفضل 39 بالمائة من المستجوبين في العمل معظم ساعاتهم في المنزل. وفقط 20 بالمئة من العمال فضلوا القيام بمعظم ساعات عملهم أو كلها خارج المنزل.


إشراف عام خولة بوكريم

بالشراكة مع منظمة « صحافيون من أجل حقوق الإنسان » الشؤون الدولية/كندا