22/01/18
انتظر التونسيون إحدى عشرة سنة إثر مغادرة الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي ليسمعوا صوته في آخر محادثاته الهاتفية مع أقرب مستشاريه، محادثات نشرت في تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC عربي في ذكرى 14 جانفي..سمعوه يتودد بالعودة إلى قرطاج بعد أن غادر القصر رفقة عشرة أشخاص من عائلته و مقربيه..طلب بن علي من مستشاريه الرجوع الفوري إلى كرسي السلطة الذي تركه منذ سويعات قليلة و هو لا يزال محلقا على متن الطائرة في الأجواء نحو العربية السعودية..حوار كشف عن حجم الصدمة و الهوان الذي كان يعتريه..و كان الغموض يلفّ به و بمصيره..غموض لاح من خلال نبرات صوته و انكسار كلماته و الصمت المتقطّع لمتحدثيه : كمال اللطيف رجل الأعمال المعروف و صديقه المقرب و وزير دفاعه رضا قريرة و رئيس أركان الجيش السابق رشيد عمار.
لم تكن الأرض التونسية في الساعات القليلة من مغادرة الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي ليلة 14 جانفي في حجم توقعات رئيسها المحلق في الأجواء..انقطعت عنه المعلومة و هو سائر نحو المجهول فكشفت المكالمات حجم هذا الارتباك الذي كان عليه في محادثته الهاتفية مع رضا قريرة :
آلوو
وي سيد الرئيس تفضّل
اشنوة اللي قاعد ياقع يا رضا ؟
سيدي الرئيس تو خرج بلاغ من الرئاسة و رئيس مجلس النواب و رئيس مجلس المستشارين قالوا محمد الغنوشي يتولى الرئاسة بالنيابة ..
اشبيهم هذوما ( مقاطعا )
يرد بن علي بعد ذلك :” يا ولدي سأعود بعد ساعات..سأعود بعد ساعات..”
رضا قريرة : “مرحبا بيك سيد الرئيس وقت اللي ترجع ..الدفاع معاك، العسكر معاك..تفضل.تفضل..”
رغبة بن علي في العودة الفورية إلى قرطاج تصطدم بمعلومات عن تغيير هيئة الحكم..معلومات غير مسبوقة تصله عبر محادثته مع وزير الدفاع آنذاك رضا قريرة مرفوقة بعبارات التأدب و الالتزام بين رئيس و مرؤوس..فلا يزال المخاطب رئيسا و المستجوب في خدمته مستعملا عبارات الفضل و الصفة..و لكن المساحة الزمنية التي تخلق الفارق بين مكالمة و أخرى تحصى بالدقائق حتى تغير معطيات الواقع المشتعل على الأرض..واقع هروب الرئيس و تحليق طائرته في الأجواء إلى وجهة تبدو غير معلومة في البداية.و واقع شارع غير مسيطر عليه و خروج الجيش م الثكنات لحفظ المؤسسات و المرافق العامة و الخاصة.
محادثة بن علي مع رجل الأعمال و صديقه المقرّب كمال اللطيف (حسب التسريبات الهاتفية المنشورة )أكدت رغبة بن علي في العودة الفورية لقصر قرطاج :
آلوو كمال..رضا قريرة قلي الأمور مبسوطة
لا لا فمة برشا DERAPAGE و الجيش موش كافي..
يا كمال اشنوة قلت صاحبي؟ نرجع توة و الا لا ؟..نرجع توة و الا لا ؟
أه ه ( صمت …)
آلو قلت لك أني في الثنية راجع ؟؟ نرجع و الا لا ؟
لا..الأمور موش باهية راهي..الأمور موش باهية..
عجايب.؟؟يعني ما نرجعش تو يعني…
إصرار بن علي للعودة يبدو ملحا خلال هذه المكالمة مع كمال اللطيّف و بقدر الإصرار و الإلحاح على السؤال بكون الأمر ملائما للعودة بقدر تشوّق زين العابدين بن علي إلى سماع إجابة إيجابي بالعودة..و لكن صمت المتحدث مرارا و تكرارا و عدم التفاعل الفوري في بداية المكالمة يؤكد حالة الارتياب و الغموض الذي يلف المكان و الواقع و ترتيبات انتقال السلطة في تلك اللحظات..و الجزم بأن الأمور على غير ما يرام هو حسم و بطريقة غير مباشرة بانتهاء مهام بن علي على رأس قرطاج و ما التسوبف بالعودة إلا لرفع الحرج عن المتحدّث معه و بقية ولاء..و كان التعجب من بن علي باديا لفظا و إيقاعا و شعورا حسب المحادثة الجارية.
إلحاح زين العابدين بن علي على العودة تكرر في مكالمته مع رئيس أركان الجيش رشيد عمار ( حسب التسريب الصوتي ل بي بي سي عربي ) :
شوف يا رشيد ..يا رشيد..ندخل توة و الا بعد؟؟
ظاهرلي كان تزيد شوية خير .
قلتلي وقتاش نكلمك؟؟
وقت اللي تحب سيادتك و تو نزيد آني و سي رضا..تو نزيدو نعملو راي وقت نشوفو الأمور تنجم باش تجي تو نقولولك سيدي الرئيس..
ميسالش ميسالش وقت ما تحب سيادتك..تو نقول لسيادتك ..
حافظ بن علي على تكثيف أسئلته التي تبدو ملحة و عاجلة و لكنه لا يظفر بالإجابة الصريحة بالعودة إلى تونس من عدمها..كان الكلام ليّنا و لكنه غامض و مفتوح على جميع الاحتمالات و كأن إرهاصات المرحلة الراهنة الدقيقة ليست ملكا لأي من المتحدثين بل رهينة واقع متحرك مثل رمال الصحراء في ريح عاصف..
إن الغموض سيد الحوار الذي جرى بين بن علي و محاوره..غموض يكتسي نوعا من الليونة حتى لا تقع تلك الصدمة العاطفية المنتظرة..يقابلها بن علي بتقبل تلك الكلمات و قد بدأ يتجرّع الحقيقة المريرة ..حقيقة كونه لم يعد رئيسا للجمهورية التونسية..فبدا حواره التالي مع وزير دفاعه رضا قريرة أكبر إصرارا على العودة و حاول تجميع قواه بكونه الحاكم الفعلي لتونس و لا ينازعه في ذلك أحد فبعد أن سأل عن حال البلاد أردف بن علي قائلا :
قريب نوصل ..يا ندرا نرجع و الا نزيد شوية …
سيدي الرئيس….
نعم؟؟..نعم..؟؟ ( مقاطعا)
– ما نجمش نضمنو أمنك..ما نجمش نضمنو أمنك ( إعادة )
نزيد شوية و الا نرجع ؟؟
زيد شوية..
تونس بين يديكم ..تونس بين يديكم…
تهنى …تهنى ..
هكذا تتحول عبارة ” شوية” أي قليل من الوقت و بعضه هاجس بن علي من أجل العودة السريعة العاجلة إلى تونس و لكن الساعات تمرّ و يسري اليأس في عبّ الرئيس المخلوع الذي حجبت عنه المعلومات و الوقائع عن تونس جديدة لا مكان له فيها..و بات ليلته في قصر للضيافة في المملكة العربية السعودية و قد فصلت بينه و بين تونس مسافة ساعات و لكنها طالت لسنين..بات ليلته و أصبح على مهاتفة وزير دفاعه رضا قريرة مجددا و أصر على سؤال العودة :
إذا الأمور مستقرة أنا مش ناخو الطيارة توّ راهو ؟؟؟
سيدي الرئيس أنا نقلّك بكلّ أمانة لا يمكن أن نضمن سلامتك ،اعتبرني ابنك ..
علاه ؟؟؟
الشارع غاضب بطريقة آش مش نقلك…و ما تقليش انا لزيتك للظلم أو كذا و انت ليك سديد الرأي…
هذا المقطع من المحادثة الأخير صباح 15 جانفي بين بن علي و وزير الدفاع الأسبق رضا قريرة كان الأكثر وضوحا على استحالة عودته إلى تونس في الوقت الحالي..حوار بدا يتجلى فيها الوضوح باحتشام بعد غموض مطبق في الساعات الأخيرة من ليلة 14 جانفي..
لقد فاوض بن علي على عودته إلى قصر قرطاج حاكما في الساعات الأولى من هروبه أو “لتسفيره” خارج البلاد..مفاوضات مع مستشاريه المقربين و لكنها في شكل حوار عقيم لفه الصمت و الغموض و الإذعان و القبول و الإلحاح و الرفض و انتهت إلى الاستكانة إلى واقع جديد..إنها الثورة التونسية التي اندلعت في 17 ديسمبر و لم تكتمل.