22/01/27
سطوة الصورة “المثالية” على مواقع التواصل الاجتماعي والتطبيقات المعدلة للشكل الذي أصبح نمطا واحدا جعل الجميع متشابهين. والأخطر وضع البعض الآخر تحت طائلة سهام التنمر من أشكالهم وأجسادهم. وبدا وكأن المجتمعات على اختلاف ثقافاتها تتفق على قوالب “للشكل والجمال” بعينها يتم إقصاء كل من لا يخضع للمعايير التي وضعتها حتى وإن كانت مصطنعة وغير حقيقية.
من هنا نشأ مصطلح التنمر على الجسد أو ما عرف بـbody shaming. ويمكن أن يشمل التنمر على الدهون الزائدة أو البدانة أو النحافة أو طول القامة أو قصرها أو لون الشعر وشكل الجسم أو العضلات وملامح الموجه أو حتى على الأمراض التي تترك أثرا جسديا مثل الصدفية.
التنمر سمّ يتسلل إلى الداخل
يمكن أن تنتقل حالة الرفض لدى الآخرين تجاه الشخص المستهدف من التنمر إلى الضحية نفسه فيغير نظرته إلى نفسه ولا يصير يقيمها إلا من خلالهم. وهنا يصبح الضحية غريبا على جسده ويظل يجلد ذاته طوال الوقت ويحملها مسؤولية بدانته أو نحافته أو حتى مرضه.
أحلام الشرميطي، محررة بموقع الكتروني، هي أيضا أيقنت أن الحرب على التنمر وسوء تقدير الذات تبدأ من الداخل عبر الاقتناع بعدم وجود نمط واحد أو مثالي للجمال.
وقالت لكشف ميديا:
الترويج للشكل المثالي عبر مواقع التواصل الاجتماعي جعلنا نشبه بعضنا إلى حد كبير وهذا يتعارض تماما مع مفهوم الجمال الذي أرى أنه يكمن في التفرد والاختلاف.
وكشفت أحلام أنها تعرضت للتنمر منذ الصغر بسبب قصر قامتها، مضيفة “كنت أنعت بـ’القزمة’ وكثيرا ما كنت أنزعج من ذلك رغم أنه كان يقال في شكل مزاح “.
وتروي أحلام كيف أن المضايقات أثرت على طريقة هندامها فصارت لا تذهب إلى الدراسة إلا بارتداء كعب عال قد يصل طوله إلى 10 سنتيمترات أحيانا. كما كان لديها هاجس لإخفاء الشعر الأبيض، خاصة بعد سماع تعاليق مثل: لماذا يظهر الشيب على رأسك وأنت صغيرة السن؟
وتفسر أحلام هوسها بصبغ شعرها كل أسبوعين:
كنتٌ أشعر أنني مبرمجة ومنساقة لما يفرضه المجتمع الذي يعتبر أن الشعر الأبيض قبيح وأنه علامة على التقدم في السن أو هو دليل على عدم عناية المرأة بنفسها وبمظهرها.
لكن هذا الهوس لم يدم طويلا إذ قررت أحلام القيام بمراجعات بعد مرورها بصراع داخلي أفضى الى تقبل فكرة تقدير الذات واستحسانها كيفما كانت. وأضاف الى ذلك تأثرها بتصالح عدد من النساء حول العالم مع أشكالهن عبر مواقع التواصل الاجتماعي وأعجبت بتعامل ماركات عالمية متخصصة في الموضة مع النساء ذوات الوزن الزائد وبعض “العيوب” الخلقية.
تحرص أحلام اليوم على الظهور بشعرها كما هو دون صبغات كيميائية كما قللت من ارتداء الكعب العالي إلى حد كبير وصارت متصالحة وسعيدة في شكلها “الطبيعي” الحقيقي.
تقبل الذات يخفف الضغط
وعلى عكس أحلام لم تعان الصحفية والباحثة في الإعلام العمومي، سامية حسين، من نزاع داخلي بسبب غزو الشيب لشعرها بل كانت مقتنعة تماما أن الشعر الأبيض ليس وصمة تستوجب الإخفاء و”لم تتردد أبدا في تقديم نشرة الأخبار بشكل مغاير” لما تعود التلفزيون الرسمي على بثه، وهو ما أثار موجة استحسان كبيرة لدى الجمهور عبر عليها عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
لكن قبل الظهور بالشعر الأبيض واجهت سامية صراعا لفرض خيارها داخل المؤسسة التي تشتغل فيها لمدة سنوات، كما تقول.
وتروي سامية لكشف:
لقد تقدمتٌ سنة 2015 لتقديم نشرة الأخبار ولكن رغم نجاحي لم يسمح لي القيام بذلك بشعر أبيض واضطررتٌ لصبغ شعري حتى أتمكنَ من ذلك.
وتفسر سامية أنها لم تعد للمطالبة بخيارها إلا بعد انقضاء خمس سنوات تقلدت خلالها مسؤوليات كبرى داخل مؤسسة الإذاعة التلفزة التونسية. وتضيف “رغم مضايقة بعض الزملاء والزميلات ورؤساء التحرير والمسؤولين أصريت على موقفي وقدمت نشرة الأخبار بشعري الأبيض بعد نجاحي في مناظرة رئيس تحرير مساعد في غرفة الأخبار. في ذلك الوقت تخليت تماما عن صبغ شعري”.
وتابعت:
عندما يكونٌ لك وزن واحترام وتقدير لكفاءتك المهنية يزيدٌ ذلك من قوتك وعزيمتك على كسر النمطية السائدة”.
وترى الباحثة أن الظهور بالشيب على شاشة التلفزيون الرسمي يتماشى مع معايير الإعلام العمومي الذي يمثل كل المجتمع على اختلاف أشكاله. وعبرت لـكشف ميديا عن تمسكها بمبدأ قبول الآخر:
مثلماَ أحرص على الظهور بالشكل الذي أنا عليه أنا أتقبل الآخر كما هو وأي تضييق أو رفض على أساس الشكل يدخلنا حتما في خانة الإقصاء والاضطهاد.
يقول الدكتور مالك قطاط، المتخصص في العلاج النفسي، لكشف ميديا:
الرفض الاجتماعي الذي يتعرض له ضحايا التنمر الجسدي يعتبر عائقا أمام الاندماج الناجح في الوسط الاجتماعي. وذلك لأن هذا الرفض يتحول إلى قوة إقصاء مستمرة للفرد من المجموعة وهو ما يعمق لديه الشعور بالهوان وكسر الثقة بالنفس والقدرة على الثقة بالآخر وضرب روح المبادرة.
ويضيف الدكتور أن كل هذه العوامل تدفع بالنهاية إلى اضعاف الإرادة والعزيمة والمثابرة وزيادة الاقتناع بأن لا شيء يستحق عناء المخاطرة. وهو ما يجعل الضحية يتقوقع على نفسه أكثر فأكثر ويدخل في حلقة مفرغة يولد فيها الفشل من كل ما سبق فيزيد في حدة المعاناة منه ونتيجة ذلك هو الانتهاء إلى رفض الذات لذاتها.
ويفسر الدكتور مالك:
إن كان عدم تقبل الذات مقترنا بالعجز عن التغيير المادي “للشكل” بصورة تسمح للضحية بالشعور باستقرار نفسي أكبر عبر ممارسة سلطة مباشرة على ما تعتبره “سبب اقصائها”، فإن ذلك من شأنه مضاعفة آلام الضحية النفسية وشقائها خاصة إن كان تغيير الشكل يندرج في إطار مقاربة علاجية متعددة الأبعاد ومؤسسة على الأدلة العلمية يقع الاتفاق عليها مع الأخصائيين.
ويرى أنه يتوجب التحلي ببعض النسبية ذلك أن تغيير الشكل في حد ذاته لا يمكن أن يكون حلا جذريا في صورة غياب عمل منهجي وجاد وبمرافقة مختصة على التمكين النفسي للفرد وصقل مؤهلات الثقة في النفس وتقبل صورتها وتوخي سلوك تأكيدي للذات بما يسمح بالخروج من دور الضحية الدائمة إلى دور الفاعل المقاوم والمسيطر على مصيره.
أما إسلام القيزاني، الطالبة والناشطة في المجتمع المدني، فقد وجدت طريقا آخر للتصالح مع نفسها.
وتقول لكشف ميديا:
كنتٌ منزعجة جدا من وزني الزائد خلال فترة المراهقة وحاولت مرات عديدة اتباع نظام غذائي صارم لكني كنت أفشل في كل مرة.
وأضافت:
فشلي في تغيير شكلي ترك لي خيارا وحيدا وهو تقبل نفسي مثلما هي. وخلال هذه المرحلة اكتشفت أن زيادة وزني تميزني عن غيري وقد تصبح رمزا لجمال مختلف”.
وعندما حاول أحد زملائها بالجامعة مضايقتها والسخرية من بدانتها أجابته بكل ثقة “يعجبني شكلي كما هو وأنا سعيدة لما أنا عليه”.
وعلى الرغم من العتمة التي تسببها أثار التنمر في نفوس الضحاي، خرجت أصوات تدعم فكرة تقبل الذات كما هي وإن كان بها “عيوب”، لمجابهة الكم الهائل لتعاليق السخرية عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
كما أطلقت في الفترة الأخيرة حملات مختلفة حول العالم رافضة لنمط واحد للجمال ومنها تحدي الشكل الطبيعي natural challenge شاركت فيها مجموعة كبيرة من نجوم الفن والجمال.
وحاولت ملكة جمال فرنسا السابقة، مارين لورفيلين أن تثبت للجميع أن المرأة حتى وإن كانت ملكة للجمال فهذا لا يعني عدم وجود عيوب أو شوائب بالبشرة. ونزلت مارين صورة لها دون مايكاب على حسابها بالانستغرام ودونت تحتها “تقبل عيوبك هو اشتغال على نفسك ، يعززه ترحيب الآخرين”.
كانت مارين تعاني منذ صغرها من بثور على الوجه وهوس الجلد، وهو اضطراب الوسواس القهري الذي يسبب رغبة لا يمكن التغلب عليها تقريبًا لخدش جلدها، مما يتسبب لها في ندبات.
دراسة نشرت على موقع NCBI الأمريكي المتخصص كشفت مؤخرا أن مخاطر التنمر تظهر بشدة لدى شريحة كبيرة من طلّاب العام الجامعي الأول. وتقول الدراسة أن هذا النوع من التنمر في الصغر، يظل مخزنا لدى الطفل والمراهق، حتى يصل إلى أعراض اكتئاب واضحة وشديدة في مرحلة الرشد الجامعي.
ويوضح الدكتور مالك قطاط لكشف ميديا في هذا السياق أن الواقع الاتصالي المعاصر وطغيان ثقافة الصورة على الذهن البشري قيدا إلى حد بعيد قدرة الانسان على التخيل والتجريد وجعل الطفل ينمو في وسط تحيط به الصورة الساطعة وعالية الدقة من كل ناحية فصار تصور الذات محددا بالمواصفات والتطلعات المشهدية التي يفرضها عالم الصورة والتي قد تكون غالبا بعيدة عن الواقعية والحقيقة.
هذه المواصفات صارت تحدد الاذواق والانتظارات وسقف الرضا وخيبة الأمل في وقت واحد، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى سلوكات ترتقي فيها مركزية الاعتناء بالصورة إلى مرتبة الهوس ولذلك انعكاسات سلبية خاصة على النفسيات التي تتميز بالهشاشة.
ويبقى السؤال هل الجميع اليوم قادر على التخلص من آثار التنمر والبدء في العلاج منه ؟ أم أنه من المبكر جدا أن نجزم بأن الضحايا أنفسهم قد يكونون غير واعين بحجم المظلمة التي تعرضوا إليها؟