22/03/18
كيف لنا ألاّ نفرح ونرقص ونرسم بالكلمات في جمهورية العهد السعيد، كيف لنا ألاّ نترنح ونتمايل كالفراشات في عهد الرئيس الأوحد المجيد، عهد نتزاحم فيه منذ الصباح وحتى المساء على السميد والفارينة والخبز. عهد أصبحت فيه تونس أشبه بسجن يلتهم الكل حتى من يفكر أن يتجرّأ على ألاّ يسعد بالنظام الجديد.
ما أكثر جحودنا، كيف لنا ألاّ نسعد كل سعادة الدنيا بعدما تزامنت مصادفة وبلا استئذان في يوم واحد أربعة أحداث متنوعة ومختلفة لكنها تدق ناقوس خطر داهم. لكل حدث مضمون، لكل حدث دلالات، لكن كلها تصب في خانة واحدة “نحن في عهد الصوت الواحد، نحن في زمن الرجل الواحد الشحاع “.
الحدث الأول تقاسمناه جميعا بالتندّر أحيانا وبجدية وحماسة في أحيان أخرى لإدراكنا التام مدى خطورته بعدما خفضت وكالة “فيتش” الدولية للتصنيف الائتماني تصنيف تونس السيادي من مرتبة “B-” إلى “CCC”.
ما إن استوعبنا خطورة هذا الترقيم الجديد الذي يعكس مخاطر السيولة المالية والخارجية المتزايدة بعد تأخر الاتفاق على برنامج جديد مع صندوق النقد الدولي، حتى أطلّ برأسه تقرير آخر تابع للأمم المتحدة بعنوان ” تقرير السعادة العالمي” وضع تونس في المرتبة 129 من مجموع 146 دولة.
إذن كيف لا نسعد في بلد الفرح الدائم ونحن نتكئ على جدار من هواء، كيف لنا ألاّ نسعد ونحن لم نترك وراءنا في ترتيب مؤشر السعادة سوى بلدان أكثر منّا تعاسة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا كلبنان وأفغانستان؟
الحدث الثالث، وإن كان في مخيلة البعض لا يخص سوى قطاع الصحافيين، فإنه يترجم بعمق وبوضوح تام إلى أين تتجه تونس تحت راية ألوهية سيادة الرئيس وقداسة عنايته .
إن إيقاف الصحفي خليفة القاسمي مراسل إذاعة موزاييك على خلفية تشبثه بعدم ذكر مصدره بعدما نشر مقالا يخص إحباط عملية إرهابية، يلخص ويصف بلا مواربة وضع تونس الجديد بعد 25 جويلية. وضع مرتبك أشبه بوضع المخمور حتى الثمالة الذي يريد فقط إنقاذ نفسه بالقوة وبالعصا الغليظة.
خطأ خليفة القاسمي الصحافي البسيط المتحدر من ولاية القيروان أنه أراد لنفسه الشقاء ولم يرد أن يسعد مثلنا في جمهورية السعادة، خطأ القاسمي أنه احترم القانون ولبى طلب السلطات وحضر بثكنة العوينة كي يوضح ما نشره بشأن عملية إرهابية.
ولأن عصا النظام الجديد لا تقبل من يقول لها “لا ” زج بالقاسمي في الإيقاف لسبب واحد وبسيط أنه تمسك بما أملاه عليه الفصل 11 من المرسوم 115 الذي يعطيه حق عدم الإفصاح عن مصادره.
المسألة باتت واضحة المعالم الآن، المسألة أعمق بكثير ولا تخص خليفة القاسمي وحده فهو نموذج مصغّر ورسالة مشفرة تبرق بها السلطة لمن سيأتي من بعده من الصحافيين، بحيث يُصبح الشعار وأنت تكتب في الدولة الجديدة ” قل نعم ! تكن بخيرا، قل لا ! تعاقب مهما كانت صفتك وبشتى االطرق”.
السلطة تدرك أن القاسمي محصّن قانونيا، ليس فقط بالمرسوم 115 بل أيضا حتى بقانون مكافحة الإرهاب -الذي كان منذ البداية مرفوضا من الهياكل المعنية بقطاع الصحافة ومن منظمات المجتمع المدني-، لكنها تريد عمدا أن تلتهم وبِنَهم ما تبقى من قطاع الصحافة لتُتم عملية القتل الأخيرة للديمقراطية والحرية بصفة نهائية ومعلنة وبلا أي حرج بعدما أفرغت الساحة لسيد واحد يقول ما يقول ويجب علينا تصديقة والامتثال لأوامره.
مؤشر السعادة الرابع، يأتينا من والي تونس الذي ظهر علينا فجأة بصفة المحب الداعم للثقافة والإبداع، بعدما أصدر منشورا مضحكا ينص على أن شارع الثورة -شارع الحبيب بورقيبة-، مخصص من اليوم إلى اللاّمنتهى فقط للتظاهرات الثقافية والإبداعية.
كيف لا نسعد في عاصمة الوالي وهو الذي يريد أن يُفهمنا أنه رقيق وفنان وأن هدفه نبيل يرمي إلى جعل شارع الحبيب بورقيبة مزارا لمن يريد أن يرسم ولمن يريد أن يقرأ ولمن يريد أن يرقص رقصة البجع الأخيرة، لا شارعا يضرب فيه المحتجون بعصا البوليس.
إن تاريخ 18 مارس 2022 وقبيل يومين من الاحتفال بذكرى الاستقلال أيها السعداء، تريده السلطة أن يكون يوم القتل النهائي لمسار ثورة 17 ديسمبر2010 – 14 جانفي 2011، بعدما تجرّأت علنا على الاستئثار بشارع الحبيب بورقيبة لمحاولة تفريغه من كل محتوى رمزي يؤشر للديمقراطية والحرية والتعبير عن الرأي. شارع بورقيبة ذلك الشارع السياسي الذي استلهم منه قيس سعيد شعار “الشعب يريد”.
كيف لنا ألا نسعد أيها التعساء في العهد الجديد، ونحن نجد من يعيدنا إلى رشدنا حين نخطئ في حق الرئيس. فشكرا لكم أيها المطبّلون بالمجان، أنتم تقفون وقفة رجل واحد للتنكيل بمن يوجه أي نقد أو أي ملاحظة قد توجّه للرئيس وكأنه رئيسكم لوحدكم لا رئيسا لنا جميعا.
كونوا سعداء وتفاءلوا، فالمطبّلون والمصفّقون، جنبا إلى جنب يُمنّون النفس الآن بأن تتطور التكنولوجيا، بحيث تُصبح لديهم قدرة خارقة تمكنهم من وراء الكومبيوتر وتحديدا عبر فايسبوك من صفع من يريدون وركل من لا يُحبّون، التُهمة انتقاد ومعارضة الرئيس.
حتما عند طرح كل هذه النقاط، سيهرول أكثر أنصار الرئيس تشدّدا، للقول إن الإعلام بدأ في دق طبول الحرب على “الزعيم”.
لكن هذه المظلومية لن تكون مبررة، فلدى مخاوفنا مبررات كثيرة، دُشنت أولى دلائلها دقائق فقط بعد الإعلان عن فوز سعيّد بالرئاسة في 2019 بعدما اعتدى بعض أنصاره بالعنف على صحافيات وصحافيين في شارع الحبيب بورقيبة وسط العاصمة، لا لأنهم رفعوا شعارات ضد الرئيس الجديد بل إن تهمتهم الوحيدة هي الانتماء إلى محطات تلفزيونية وصحف انتقدت سعيّد وغموض برامجه بل وحذّرت من خطورة بعض أنصاره.
في جمهورية الفرح الدائم يتم الاستناد إلى الشرعية التي تؤدي إلى التقديس المفرط للشخص والتي قد تنقلب إلى الضد لتصنع دكتاتورا جديدا، فهتلر نفسه وصل إلى السلطة بصناديق الاقتراع، لكن مزاجه الشمولي أولا وصُناعه ثانيا ورطوه في إطالة النظر في مرآته ليتحوّل إلى أحد أكبر رموز الفاشية في تاريخ الإنسانية.