22/04/07
إنه الواحد والثلاثون من مارس 2022، السماء كانت مغيمة فوق المحكمة الابتدائية ببن عروس، أين حضر أمامها ومن خلفها بكثافة أعوان الأمن المدججون بالسلاح، و أما الرصيف المقابل لها تجمَّع به المئات من الناشطين الحقوقيين ومن محبي النادي الأفريقي، وقد بحت حناجرهم وهم يهتفون “تعلم عوم”ويرفعون شعارات غاضبة ضد أعوان الشرطة و وزارة الداخلية.
في ركن غير ببعيد عن كل هذا المشهد الصاخب، جلست وسيلة فرجاوي والدة المرحوم عمر العبيدي تنتظر قرار المحكمة لعلها تسمع خبرا يشفي غليلها، تحدثنا إليها رغم حالة الانهيار التي تعيشها، هي لا تفقه الكثير في القانون و لا تعرف كثيرا عن تفاصيل محاكمة المتهمين بقتل ابنها، لكنها تردد جملة واحدة طوال الوقت:
لن أتخلى عن حق عمر، ولن أسامح من قتله، أثق في القضاء الذي سينصفني .
تحدثنا بنظراتها المتفائلة تارة فلربما تسمع ما يقر عينها، وتارة بتلك المنكسرة، خاصة عندما تعود بها الذاكرة إلى يوم 31 مارس 2018، تاريخ مباراة جمعت النادي الإفريقي و فريق أولمبيك مدنين بالملعب الأولمبي برادس، هذه المباراة التي سبقتها أجواء مشحونة في المنعرج الشمالي الذي يضمُّ مجموعات الألتراس التابعة للنادي الأفريقي، مشاحنات كانت تنتهي غالبا بصدامات مع قوات البوليس الموجودة في الملاعب.
لكن سبب الصدام لم يكن هذا فحسب، لأننا كل أنواع التضييق و الممارسات و الايقافات التي تطال أعضاء هذه المجموعات قبل دخول الملاعب كانت تنبؤ دائما باشتعال فتيل المواجهة بين الطرفين، إلى أن وقع المحظور في مقابلة الواحد و الثلاثين من مارس 2018 وانتقلت الصدامات الى خارج أسوار الملعب بعد أن أخلت قوات الأمن المدارج الشمالية باستعمال الغاز المسيل للدموع وطاردت المشجعين الهاربين من استنشاق تلك الغازات.
صدامات انتهت بوفاة عمر العبيدي بعد أن طاردته فرقة أمنية صحبة عدد من رفاقه وصولاً الى واد مليان المكان الذي سقط فيه وفارق الحياة.
اختلفت الروايات بين شهود عيان و أعوان الأمن و ما سجلته كاميرات المراقبة التي أظهرت فيديو قصير للمرحوم عمر العبيدي يقف مكتوف الأيدي أثناء وقوع صدام بين الجماهير وقوات البوليس، وفق ما أفاد به محاميه.
لكن الرواية الأقرب للواقع حسب تقاطع المصادر و الشهادات ومحامي الضحية هي أن عمر طاردته فرقة أمنية مئات الأمتار بعيدا عن أسوار الملعب الأولمبي برادس وصولاً إلى طريق مسدود يغلقه واد مليان الذي كان مملوءا بالمياه آنذاك.
صديق المرحوم عمر العبيدي و شاهد عيان تحدث عما حصل في حصة تلفزية بثتها قناة قرطاج+ في 1 أفريل 2021 و أكد أن عمر وقف حينها ينظر الى أعوان الأمن من أمامه و مياه الواد من ورائه، ترجّاهم و طلب العفو خوفا من السباحة في الواد مثلما فعل عدد من أصدقائه لأنه لم يكن يعرف السباحة و تبادر الى ذهنه سيناريو الموت غرقاً ، لكن الأمنيين رفضوا ذلك وألقوا به في الماء مرددين عبارة ” تعلم عوم” التي تحولت منذ ذلك الى شعار ضد الممارسات القمعية البوليسية في تونس .
يقولُ محمد (اسم مستعار)، 21 عاماً لكشف ميديا و هو عضو بإحدى مجموعات الألتراس التابعة للنادي الافريقي إنَّ الصراع سيبقى قائما طالما البوليس ينتهجُ سياسة الترهيب و القمع، و يضيف قائلاً:
لا يمكنُ أن نكون أصدقاء مع البوليس، هم يكرهوننا و يحاولون دائماً قمعنا بشتى الطرق المتاحة لهم.
محمد، يعيش حياة الألتراس منذ سنوات ولم يتغيب تقريبا عن أي مباراة لفريقه بالملعب الأولمبي برادس، و في كل مرة يعيش تجربة جديدة مع أعوان الأمن لكن المقابلة التي لا تمحى من باله هي مقابلة 31 مارس 2018 التي توفي فيها عمر العبيدي.
لم أكن أتوقع يوما أن يصل الصراع إلى الموت لقد كانت صدمة لا توصف عند سماع خبر وفاة شاب بعد مطاردة أمنية، في بداية الأمر لم نصدق ذلك و لم نستوعب حجم الكارثة، لسنا هنا للموت.
أربعُ سنوات دون محاسبة
لم يخلو سجل وزارة الداخلية بعد ثورة 2011 من جرائم قتل وتعذيب وفق منظمات حقوقية وشهادات حيّة، وقضايا ركنت لسنوات في رفوف المحاكم. وعلى الرغم من اختلاف قصص الضحايا وأطرها الزمانية والمكانية، إلا أنهم تقاطعوا عند جلاَّد واحد أفلتَ في كل مرة من المساءلة والمحاسبة.
فيما يلي صور وأسماء لضحايا العنف البوليسي الذين لا تزالُ قضاياهم تنتظر حكما واحدا عادلا يشفي غليل عائلاتهم.
وكان موقع كشف ميديا قد نشر تحقيقا بتاريخ الثامن عشر من أوت 2021، حول محمد المرزوقي، الشاب الذي توفي على دراجته النارية في الرابع من أوت 2021 ، خلال مطاردة أمنية بمعتمدية نصر الله من ولاية القيروان.
اما قضية عمر العبيدي، “شهيد الملاعب”، لا تعدو سوى أن تكونَ فصلاً إضافيا في سجلّ الإفلات من العقاب لأعوان وزارة الداخلية، والذي يحملُ في طيّاته جملة من الجرائم التي لم يحاكم مرتكبوها إلى حدّ كتابة هذه السطور.
منذ 31 مارس 2018 والأبحاث متواصلة في قضية مقتل عمر العبيدي، حيث يحاكمُ 14 عون أمن بتهم القتل غير العمد و الامتناع عن انجاد شخص في حالة خطر. هذه التهم التي لم تطفىء نار عائلة عمر ولا يقتنع بجدواها ناشطو/ات حملة تعلم عوم، كذلك الأمر بالنسبة لهيئة الدفاع التي لا تزالُ تطالبُ بتوجيه تهمة القتل العمد لأعوان الأمن خاصة بعد ثبوت الاعتداء الجسدي على الهالك قبل وفاته وفق تقرير الطب الشرعي.
لا أحد يعلم إن كانت الصدفة أو القدر أو ربما رغبة القاضي بأن تتزامن الذكرى الرابعة لوفاة المرحوم عمر العبيدي، مع تاريخ جلسة محاكمة الأمنيين المتهمين في مقتله.
31 مارس 2022 حضر المتهمون لأول مرة في قاعة الجلسة رفقة عدد كبير من ممثلين عن النقابات الأمنية بالإضافة إلى وحدات مكافحة الشغب التي تحيط بمقر المحكمة، و في المقابل مئات من جماهير النادي الأفريقي و مواطنين/ات و ممثلين/ات عن جمعيات حقوقية رافعين شعارات تطالب بمعاقبة المذنبين.
توقفت جلسة المحاكمة بعد صراخ والدة عمر العبيدي أثناء مشاهدة أعوان الأمن المظنون فيهم في قتل ابنها و سادت حالة من التشنج داخل قاعة الجلسة.
يقول التومي بن فرحات محامي عائلة عمر العبيدي لكشف ميديا إنَّ التهم التي يواجهها أعوان الأمن غير كافية لاسترجاع الحق.
ويضيف:
يوم الثاني من أفريل سنة 2018 أكد تقرير الطب الشرعي وجود أضرار و زٌرقة على جسد الهالك في الفخذ الأيمن والفخذ الأيسر و أماكن أخرى .
كما يؤكد محامي الضحية أن وزارة الداخلية حاولت قدر الإمكان طمس الحقيقة، حتى الأمنيين المتورطين كانوا قد أنكروا في بداية الأمر عملية المطاردة و أكدوا أن لا علاقة لهم بما حصل ، لكن هيئة الدفاع تمكنت من الوصول الى النسيج الأمني عبر التعرف على اللوحات المنجمية لسيارات الأمن التي قامت بالمطاردة و الاشتباك مع الجماهير.
المتهمون أقروا بأنهم اتفقوا على الكذب و عند مواجهتم بالحجة و الدليل اتفقوا على كذبة جماعية جديدة و قالوا إن المطاردة لم تتواصل إلى واد مليان.
التومي بن فرحات يقول إنَّ أحد الأمنيين قد اعترف بكل ما حصل و أدلى بشهادته وأكَّد رواية الاعتداء، لكن النقابات الأمنية قامت بالضغط عليه و تراجع في شهادته خوفا منهم.
وفي حديثه عن دور النقابات الأمنية في القضية يشيرُ إلى أنها هي من سعت وراء إنكار المتهمين لعملية المطاردة و من ثمَّ الضغط على حاكم التحقيق في أحد جلسات المكافحة بين الأمنيين و الشهود بالتاريخ 7 جانفي 2019 ، حيث تواجد حوالي خمسونَ نفرا منتمين إلى النقابات الأمنية بهدف الترهيب و الضغط و هي ليست المرة الأولى التي يلجأ فيها هذا الطرف الى مثل هذه الممارسات .
و في سؤاله عن مصير الأمنيين المتهمين يجيب الأستاذ بن فرحات:
لم تتم معاقبة أي من الأمنيين من الناحية الإدارية و لازالوا يباشرون عملهم و لربما يتم ترقية بعضهم، و لم تسلط ضدهم أي عقوبات إدارية أو سجنية منذ 4 سنوات.
عصا البوليس الغليظة لا تفرّق بين الجماهير وألوانها
واقعة وفاة عمر العبيدي لم تكن وحدها دليلا على علاقة “عداوة” كما يسميها أحد عناصر مجموعات الألتراس و وزارة الداخلية في تونس، حيثُ أن المشهد المعتاد كان يتسم بالعنف في عدد كبير من المقابلات لا فقط مباريات كرة القدم بل حتى في القاعات المغطاة.
س.ع، 24 سنة وهو عضو ألتراس بمجموعة “نورث فاندالز” التي ينتمي إليها الفقيد عمر العبيدي، يزاولُ حاليا سنته النهائية بالجامعة، لكنه يعيشُ حياة فرد الالتراس توازيا مع التزاماته الدراسية.
يقول الشاب إنه يشعر بحالة من الاحباط التي تمتزج بشعور الخوف والكره للمنظومة الحاكمة ، ليس خوفا من المواجهة أو المقاومة كما يقول بل خوفا على والدته وعائلته التي قد يعود إليها ميتا بعد مباراة كرة مثلما حصل مع أم عمر العبيدي منذ سنوات.
يضيفُ:
ذلك الكره الذي صنع في المدارج و بعد وفاة عمر يدفعنا شيئا فشيئا نحو البحث عن الانتقام لروح الفقيد و أن نجعل عون الأمن يشعر بالألم الذي أذاقنا اياه.
و في حديثه عن المنظومة القضائية يقول إنّه لا يثقُ في القضاء لأنه يرى أنه مسيس و يخدم مصالح أفراد و مجموعات معينة، و علاقة القاضي بعون الأمن هي علاقة مجاملة لا علاقة تطبيق قانون و عدل.
أما عن أعوان الأمن فهم يفعلون ما يشائون مستغلين سلطتهم دون أي حسيب أو رقيب حسب تعبيره.
ينهي س.ع حديثه قائلا:
لن نتراجع و لن نعود إلى الوراء، فنحن نؤمن بوعد الله الحق وأن الظلم لن يكون أبدياً، و المظلومون في نهاية الأمر سيكونون بمثابة القوة التي ستٌسقط هذه المنظومة الغاشمة. وعمر العبيدي مغدور ومظلوم
أما أ.ف، عضو التراس و محب للترجي الرياضي التونسي في سن السادسة و العشرين، يعتبر قضية المرحوم عمر العبيدي ليست قضية نادي رياضي بعينه أو مدينة معينة، بل هي قضية وأمانة يحملها كل أفراد الألتراس في تونس أو خارج الحدود.
يقول الشاب:
عصا البوليس لا تفرقُ بين قميص أي فريق ترجي افريقي أو غيره من الفرق، أو أي جهة تنتمي إليها، في نهاية الأمر أي منا يمكن أن يكون عمر عبيدي جديد و شهيد ملاعب جديد.
الشاب يؤكد تعرضه إلى مضايقات و ايقافات في مرات لا تحصى و لا تعدّ و لعلّ أغربها وفق تعبيره، منعه من إدخال علم دولة فلسطين في إحدى المرات و عند إصراره و محاولة الاستفسار تعرّض لشتى أنواع السب و الإهانة و تبرير ذلك بأن القضايا السياسية ممنوعة داخل ملاعب الكرة، لكن الأمر لا ينطبق على أعلام دول أخرى حسب تعبيره.
كل السلطات تتحدُّ من أجل قمعنا، بدءا من عون الأمن الذي نلاقيه في باب الملعب الى القاضي الذي يصدر بطاقة ايداع بالسجن في حق تلاميذ و طلبة بسبب “شمروخ” اشتريناه للاحتفال بهدف يسجله أحد لاعبينا.
“تعلم عوم” حملة حملة تبناها المجتمع المدني
منذ اليوم الأول لواقعة سقوط عمر العبيدي في واد مليان انخرطت جمعيات حقوقية وناشطين/ات في المجتمع مدني وسياسيين/ات ورياضيين/ات في مناصرة القضية التي رفعها كل من الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية لتحقيق العدالة لمحبّ النادي الأفريقي.
عمر العبيدي الذي تحول فيما بعد إلى رمز لمناهضة العنف البوليسي وتحولت عبارة “تعلم عوم” إلى شعار يرفعُ في الاحتجاجات الشعبية ضد ممارسات البوليس القمعية و أبرزها خلال احتجاجات سنة 2021 أمام البرلمان و وزارة الداخلية وفي كل شبر من شارع الحبيب بورقيبة وأحياء سيدي حسين والسيجومي والملاسين وحي التضامن.
هتافات “الفاندالس” أمام المحكمة الابتدائية ببن عروس
منظمات حقوقية وناشطون/ات طالبوا بأن يكون هذا اليوم يوما وطنيا لمناهضة الإفلات من العقاب، للتذكير بما اقترفته أيدي البوليس.
يقول أيوب عمارة الناطق الرسمي باسم حملة “تعلم عوم ” لكشف ميديا إنَّ الحملة انطلقت فعليا يوم 17 فيفري 2022 بالشراكة مع منظمات حقوقية تونسية.
نطالب بأن يكون يوم 31 مارس من كل سنة يوما وطنيا لمناهضة الإفلات من العقاب انصافا للذاكرة الوطنية على غرار يوم 13 مارس لحرية الانترنت تخليدا لذكرى زهير يحياوي و 8 ماي اليوم الوطني لمناهضة التعذيب في علاقة بقضية نبيل بركاتي .
يضيف محدثنا بأنَّ ملف عمر العبيدي ليس بمعزل عن باقي القضايا و هو القطرة التي أفاضت الكأس بعد تتالي ضحايا القمع البوليسي على حد تعبيره، و من بينهم عبد السلام الزياني الذي توفي في الايقاف أثناء الحجر الصحي سنة 2021 و الفتاتين أنس وأحلام بعد أن قتلا برصاص دورية أمنية بولاية القصرين و عبد السلام الخشناوي الذي توفي تحت ركام الكشك الذي يشتغل فيه .
أيوب عمارة يقول إنًّ القوات الحاملة للسلاح لا تعاقب عندما ترتكبُ الأخطاء و هو ما يتم السعي إليه في قضية الحال و باقي القضايا المنشورة لضحايا العنف البوليسي.فمثلما يتم التسريع في القضايا المرفوعة ضد المواطنين/ات مثل قضايا « هضم جانب موظف عمومي » أو حتى مخالفة مرورية نطالب بأن يحاكم حاملو السلاح بالمثل، وفق تعبيره.
أما الناشطة الحقوقية و عضوة بالرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، نورس الزغبي فقد كانت متواجدة بشارع الحبيب بورقيبة حيث أقيمت يوم الثلاثين من مارس خيمة تحسيسية و تضامنية مع ضحايا العنف البوليسي قبل يوم من جلسة محاكمة قتلة عمر العبيدي ، تصرح لكشف ميديا:
هذا الوضع لا يبشر بخير، لأن أعوان البوليس أصبحوا محميين بالنقابات الأمنية التي يمكن اعتبارها “ميلشيات مسلحة”. لذلك يجبٌ وضع حد لهذا النزيف، فكلنا متساوون أمام القانون.
لا تزال قضية المرحوم عمر العبيدي تراوح مكانها بعد تأجيلها إلى 16 جوان 2022، للنظر في طلبات هيئة الدفاع و القائمين بالحق الشخصي و بطلب من محامي المتهمين الذي طلب حضور المكلف بنزاعات الدولة ممثلا عن حق وزارة الداخلية، مع الإبقاء على المتهمين في حالة سراح.
قضية ” شهيد الملاعب” و قضايا أخرى لا تزال تنتظر أحكاما عادلة، و يعاقبٌ مرتكبوها بعد سنوات من الثورة التي كفل دستورها “المجمد” عدا باب الحقوق والحريات، الحق في التقاضي لجميع المواطنين على حد السواء و حماية أرواحهم و حقهم في العيش الذي تضمنه كافة المواثيق الدولية أيضا.
في المقابل لا يزال الصراع بين جمعيات حقوقية وناشطين من جهة وسلطة قضائية تتملص في كل مرة من واجبها في معاقبة المخالفين الذين يحتمون بساتر ” النقابات الأمنية”.
تم إخفاء هويات بعض المتحدثين بطلب منهم وحرصا على حماية معطياتهم الشخصية من أي ملاحقة بوليسية
كتب هذا المقال بصيغة حساسة للجندر