22/04/15
أن تكون صحافيا حرا في عهد الرئيس قيس سعيّد باتت مهمّة أكثر من شاقة، مهمة مضنية ترتقي إلى درجة التهمة أو اللعنة التي تلاحقك في كل مكان. أن تكون صحافيا فأنت الآن محاصر بين فكّين أنيابهما حادة.
الفكّ الأول المتعاظمة أنيابه في عدوانيتها ووحشيتها بات يتلذّذ صيد كل من يخرج عن القطيع ليفترس بنهم وبمتعة كل من له رأي يخالف لحن اسطوانات السلطة وعزفها النشاز والمنفرد. وهذا الفك عماد أسنانه البراقة واللامعة تحديدا أجهزة البوليس تماما مثلما دأب على ذلك كل نظام سلطوي ينطق باسم الرجل الواحد الذي يتوق بأقصى سرعة إلى بلوغ مرحلة الإنهاء مرحلة الاستبداد.
أما الفك الثاني، فأضراسه حادة رغم كل ما ينخرها من سوس ويستمد قوّته من خطابات الرئيس ليستمتع بتقطيع وتمزيق ونهش لحم كل صحافي أو صاحب رأي لا نية له بالأساس في التمرّد بقدر ما يحاول أن يترك على الأقل مسافة أمان بينه وبين ديباجات وتوجهات وتوجيهات قصر قرطاج أو إملاءات ومضايقات وزارة الداخلية.
هذا الفكّ الأخير المنتشر في الأرض يمثّله أنصار الرئيس الذين باتوا خبراء وعلماء في كل شيء. يفقهون وحدهم أخلاقيات وقواعد كل مهنة بل وأصبحوا يوزعون الدروس ويلقون الخطب بالمجان على الجميع مهما كان الاختصاص ويصدرون شهادات العفّة لمن يريدون وشهادات التوبيخ لمن لا يتسق معهم في المواقف.
أن تكون صحافيا في هذه الأيام المظلمة، عليك قبل أن تكتب أي شيء في السياسة وأنت الأجدر من الأنصار وحتى من الرئيس بذلك وقبل أن تحاول مجرّد التفكير في نقد السلطة، أن تجهّز حقيبة السجن وأن تُقبّل أمك وتودع العائلة والأصدقاء وربّما أن تبدأ أيضا في عملية حجز الكمية الكافية من علب السجائر التي ستؤنسك في المعتقل والكُتب التي ستطالعها في السجن لأنك بكل بساطة لا تدري من أين سيخرج عليك رجال البوليس ومن أين ستُكبّل وأي تهمة ستوجّه لك.
في مثل هذه المعارك، حيث بات سهلا ومتوقّعا أن يفقد أي صحافي حريته الجسدية، لا تهم معرفة من هو الموقوف أو المسجون أو ماهو إسمه وجنسه أو حتى ماضيه. ولا يهم أيضا البحث في أي فكر أو عقيدة يتبنى أو أي خطّ سياسي يتّبع وينتهج. الأهم في مثل هذه الحرب المعلنة من السلطة السياسية وبتنفيذ من أجهزتها الأمنية هو التسلح الدائم بالكلمة والمبدأ للحفاظ على مكسب حرية التعبير الذي لم يمنحه للصحافيين لا الرئيس ولا وزارة الداخلية ولا أنصار مسار 25 جويلية.
أن يتم إيقاف الصحافية شهرزاد عكاشة حتى وإن كنت تختلف معها في السياسة وفي طريقة ممارستها وفي كل شيء ربّما بسبب تدوينات معارضة للسلطة أو بسبب نقد لاذع لوزير الداخلية، ذلك يعني أن الوضع يتّجه نحو المزيد من القتامة بحيث لم يعد مستغربا الآن أن يصبح البلد أشبه بسجن كبير لا تشبع بطنه من أكل لحم المعارضين.
خرج الصحافي خليفة القاسمي من سجنه لأنه كان على حق وكان إيقافه بالأساس رسالة مشفرة وقوية لمن سيأتي من بعده. ستخرج شهرزاد أيضا، اليوم أو غدا أو بعد أسبوع أو بعد شهر. لكن هذا النظام لو كان أذكى قليلا، لما توخّى –بتوصيات مفخخة من الأجهزة والأجنحة المتكسّرة المتناحرة التي تضر بالرئيس قبل الصحافي- سياسة تكميم الأفواه. لو كان النظام أكثر صمودا وأقل ارتباكا لَدرس وتمعّن جيدا في تجارب سابقة، حينها فقط كان سيكتشف كيف يغادر الصحافي السجن، أكثر قوة أو أكثر ضعف؟
الرئيس قيس سعيّد ومنظومته وجوقته لم يصلوا إلى حد الآن على الأقل مرحلة استبداد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي خُيّل له بعد كل ما قيل عن محاولة الانقلاب في تركيا عام 2016 أن الاعتقالات ستجدي نفعا وأنها ستجعل كل من يعارضه الرأي يركع على ركبتيه طالبا الشفاعة والمغفرة.
لو كان لقيس سعيّد فريق استشاري ينفعه أكثر من أن يضره، لَأَبلغه بأول كلمات صدح بها الكاتب الصحافي التركي أحمد آلتان بعد خروجه من السجن في 15 سبتمبر 2021، حيث قال على عكس ما ينتظره نظام أردوغان مخاطبا الأتراك: ” لا تخافوا من النظام، لا تخافوا من قول الحقيقة، لا تخافوا مما قد تلاقونه من عقوبات بسبب سعيكم الدائم للتعبير عن أرائكم”.
قصة آلتان وغيره كُثرٌ، لم تستوعبها إلى حد الآن منظومة 25 جويلية في تونس. منظومة لم تستخلص العبر من الماضي ومن تجربة كل من دخل السجن في عهود بورقيبة وبن علي والنهضة بسبب رأي معارض.
الغريب في نظام الرئيس سعيّد الذي يحاصر الصحافيين ويضيّق عليهم الخناق بعصا البوليس التي أينعت واشتد عودها من جديد، أنه بات يدمن تناول حبوب منع الفهم ويعشق سياسة الهروب إلى الأمام وعدم التفاعل مع الآخر إلى درجة أنه يُفهم المتابع لشطحاته بأنه يمضي قدما في استنساخ تجارب لا تفضي بالنهاية إلا إلى دكتاتورية لن تعمّر طويلا مهما كانت شعبيتها وشعبويتها في تونس.
الآن، وبعد أن حكم القضاء العسكري بسجن الصحافي عامر عيّاد بأربعة أشهر سجنا بسبب قصيدة ألقاها لأحمد مطر قصد نقد النظام. وبعد إيقاف خليفة القاسمي ومن بعده شهرزاد عكاشة، لم يعد ينقص النظام سوى أن يخطّ للصحافيين ميثاق مهنة جديد وأخلاقيات جديدة يمليها عليهم وأن يحدد لهم مربعات وهوامش التحرّك وما عليهم سوى السمع والطاعة.
لم يعد أيضا أمام نظام الرئيس قيس سعيّد سوى أن يستنسخ تجربة السجون الإسرائيلية في ستينات وسبعينات القرن الماضي، حين كانت كلها تعلق على جدران الاستقبال صورة موحّدة لثلاثة قردة في محاولة لإرباك وتركيع الأسرى الفلسطينيين.لم يعد أمام أجهزة البوليس سوى أن يعلقوا في بهو “بوشوشة” أو في سراديب الداخلية صورة هذه القردة الثلاثة التي تجلس إلى جانب بعضها البعض، أحدها يضع يديه على عينية تعبيرا عن عدم المشاهدة، والثاني على أذنية كناية عن الطرش والثالث على فمه تعبيرا عن البكم.
صورة ربما تنفع النظام عندما يعلقها أو ربما تركّع كل صحافي يُحتفظ به هناك كأن يعيش فترة الإيقاف أو العقوبة ومن ثمة يخرج متحوّلا من النقيض إلى النقيض حاملا لشــــــعار”لا أرى، لا أسمع، لا أتكلّم”.
لكن حتى وإن استنسخ نظام “الشعب يريد” أقسى وأقصى تجارب السلطوية، فإن الشمس لا يمكن أن تُغطّى بالنهاية بأعين الغربال، فنضالات الصحافي ستتواصل ومهمته وإن كانت عسيرة، عليه أن يدرك أنه في قلب مرحلة مارة مع المارون وحقبة عابرة بلا شك، وما يتوجب عليه الآن سوى أن يزيد في شحن كلمته سلاحه الأوحد بذخائر الحبر التي يدوّي صوتها أكثر من أزيز الرصاص.
أن تكون صحافيا هذه الأيام يا له من أمر شاق، بقدر وبحجم مشقة الرئيس ومن هم من حوله، الذين ما عليهم الآن سوى أن يستوعبوا قبل فوات الأوان ولو للحظة أن الأنظمة تَقتلها بعض الكلمات التي تنطلق من فوهة قلم صحافي أو صاحب موقف ورأي لا من فوهة مسدس.
ولو كان الرئيس يحيط نفسه بأهل الثقافة لكانوا لقّنوه على الأقل البعض ممّا قال الفقيد منور صمادح شاعر الحرية الذي ظلمته دولة الاستقلال حين تغزّل بالكلمة وقال عنها كما لم يقل أحد من قبله : أو تخشى الـــناس والحق سجين الكلماتأو تخشى النــــاس والحق رهين الكلماتحيــــــوان أنــت لا تفقـــه لــــولا الكلماتونبـــات أو جمــــــاد أنـــت لـــولا الكلماتمـا الذي ترجــوه من دنياك لولا الكلمات