23/04/24
ميشال أونفري
(مجلة لوفيكارو، 31 مارس 2023)
ترجمة يوسف اسحيردة/كاتب ومترجم
الجزء الأول
صورة غلاف. AFP
ينشر ميشال أونفري كتابه الجديد، “أنيما”، عن دار ميشال ألبان، وفيه يحكي تحولات الروح الغربية، منذ نشأتها حتى مستقبل يتوقعه لا إنسانيا، حيث سيفقد الإنسان ما يُميزه عن الحيوان. حوار حصري مع الفيلسوف :
المجلة: عندما نقرأ “أنيما”، الذي يحكي قصة الروح الغربية، نشعر بأكثر من مجرد اهتمام: قلق كبير. هل تعتقدون أن اللحظات الكبرى للروح الغربية، مهما كانت تحولاتها العديدة التي تصفونها في هذا الكتاب، قد أصبحت خلفنا؟
ميشال أونفري:
لست قلقا إلى ذلك الحد، هذا ليس من طبيعتي…آخذ عن أعزائي الرومان القدماء أن هناك ما نملك عليه سلطة وهناك ما لا سلطة لنا عليه، وأنه من غير المعقول أن نشعر بالغضب، أو القلق، أو الحنق تجاه ما لا سيطرة لنا عليه. وبالتالي فانا أشاهد هذه الموجة العدمية تنزل على رؤوسنا، في حين، على الشاطئ، يرى الناس من بعيد حائط الماء الذي سينهال علينا. بعد الموجة المدية، سيعود الماء مستويا. ستندثر حضارتنا في حين ستبرز أخرى. الطبيعة تخشى الفراغ.
كتاب “أنيما” يحكي قصة هذا الاندثار على المستوى الأنطولوجي، أي على مستوى الروح؛ كتاب “الانحطاط” سبق وفعل ذلك على المستوى التاريخي والحضاري؛ كتاب “البربرية” سيفعل ذلك على المستوى الميتاتاريخي، أو، بصيغة أخرى، على مستوى فلسفة التاريخ. إبان التغيرات الحضارية، تُوجد تشابكات وتداخلات بين السابق واللاحق: اليوناني-الروماني سَبَقَ اليهودي-المسيحي الذي سيتم تعويضه بالبيوريتاني-الكاليفورني…بما أن التشابك قد حدث هو الآخر بين اليوناني والروماني، وبين اليهودي والمسيحي، وبين البيوريتاني والكاليفورني…
المجلة: هل تعتقدون أن هذه الظاهرة تخص فرنسا وحدها أم أنها تضرب أيضا باقي الدول الغربية؟
ميشال أونفري:
هي تضرب الغرب، أي كل من يعيش في ظل النظام اليهودي-المسيحي: أوروبا القديمة طبعا، بما في ذلك فرنسا، التي تٌوجد في وضع الطليعة المستنيرة للعدمية، ما يشهد على صحة المثل القديم الذي يقول بفساد السمكة من رأسها، ولكن أيضا الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا وأستراليا، ونيوزيلاندا وأمريكا الجنوبية التي سيأتي دورها هي الأخرى.
حاليا تُشكل الولايات المتحدة الأمريكية مركز هذا الانشقاق بين التقدميين والمحافظين، لكن مفاتيح الحسم توجد في يد الغافام، وقد اختارت المعسكر الليبرتاري للتقدميين الذين نصبوا أنفسهم – لأنه من المُمكن أن تُوجد تطورات داخل العدمية…
على المستوى الحضاري، لا يستطيع بايدن أو ترامب كبير أمر في واشنطن، بما أن الأمور تُحسم على الساحل الغربي للولايات المتحدة، في كاليفورنيا، من طرف إيلون ماسك، ولاري بايج، وجيف بيزوس، ومارك زوكربيرك، مهما كانت هوية الرئيس الموجود في البيت الأبيض! وقد قرر هؤلاء أن بيع وشراء الأطفال يُميز التقدم الجديد. يبدو أن كل هذه العصابة قد اتخذت ككتب ملهمة لها رواية جورج أرويل : “1984”، وراوية هوكسلي: “عالم جديد شجاع”.
المجلة: البلدان التي تتمتع بخلفية ثقافية يونانية-رومانية هي التي تعاني إذن من هذه الأدواء التي تصفونها، مثلها في ذلك مثل الدول اليهودية-المسيحية، لكن ماذا عن الدول ذات الخلفية السلتية أو السكسونية؟
ميشال أونفري:
كل شيء يتوقف على حالة المسيحية عندهم. هي انلجوساكسونية في أستراليا، ونيوزيلاندا أو أمريكا الشمالية، لكنها لاتينية في أمريكا الجنوبية، لاسيما الأرجنتين التي ينحدر منها البابا الحالي اليسوعي. نظريا، إيمان كاثوليكي ضمن ثقافة مسيحية يمنح مقاومة أكثر صرامة ضد هذه العدمية المُعولمة، من إيمان بروتستانتي ضمن ثقافة بيوريتانية. لكن الأمر يتعلق بسرعتين ضمن نفس المسلسل لتوحيد العدمية على مُجمل الكرة الأرضية.
المجلة: إذا ما اتبعنا تحليلكم التاريخي والفلسفي، من اللافت للنظر ملاحظة أن الإنسان يُدمر الإنسان من حيث هو يُريد “تحسينه”. تُخصصون صفحات تقشعر لها الأبدان لأبرز وجوه الميثولوجيا الثورية، لاسيما روسو، وروبسبيير، والأب جريجوار. فمن خلال رغبتها بخلق “إنسان جديد”، اِستبقت هذه الشخصيات، التي مازالت الاستوريوغرافيا الماركسية تُمجدها حتى اليوم، النازية والشيوعية.
ميشال أونفري:
“الإنسان الجديد” أُفُقٌ اقترحه القديس بولص الذي أراد القضاء في الإيمان ومن خلاله على الفوارق بين اليهود والإغريق، وبين الأحرار والعبيد، ولكن أيضا، وهو أمر يبدو غريبا سماعه اليوم، بين الرجال والنساء…
سنة 1793، استعاد اليعاقبة حرفيا عبارة “الإنسان الجديد” الذي لن يتحقق بالإيمان في نظرهم، ولكن بالتربية الجمهورية التي أضافوا إليها دعوة مُرعبة، دعوة يوجينية (نسبة إلى اليوجينيا، علم تحسين النسل)، وبيولوجية، وعرقية، و، لِنَقُل ذلك بكلمات اليوم: معادية للميز النوعي (antispéciste)! كان تفكير فلاسفة الأنوار، في الحقيقة، مُنْصَبًّا على صناعة كائن خرافي يجمع بين القرد والإنسان. ديدرو، وموبرتوي، وكوندرسيه، والأب سياس، وميرابو كتبوا صفحات هذيانية حول الموضوع.
هذا الإنسان الجديد، الذي أراده القديس بولص ورغب فيه روبسبيير، ستتمناه البُلشفية، ثم الفاشية التي رَدَّت عليها، ثم النازية – التعبير اِعْتُمِدَ حرفيا. عندما تطمح الإيكولوجية ساندرين روسو، التي تنتمي إلى حزب “الاتحاد الشعبي البيئي والاجتماعي الجديد”، إلى إنسان مُفكك، فمن البديهي أنها تُفكر في إنسان يُعاد بناؤه، هو في نهاية المطاف مُجرد تغيير إضافي على الموضوع القديم ل “الإنسان الجديد”. نَعْلَمُ أن جان جاك روسو، كان يتمنى تغيير الطبيعة البشرية. مع تَقَدُّمِيّي اليوم المزعومين، مازلنا بصدد ذلك.
المجلة: تُميزون لدى نظام الرعب، الذي كان يصبو إلى تدمير “الإنسان القديم” من أجل صناعة آخر “جديد”، البذور الأولى لعلم تحسين النسل وما ندعوه اليوم بالإنسانية الانتقالية. هل يمكنكم تفسير ما يربط الإنسان الذي أراده روبسبيير بالإنسان الذي يحلم به إيلون ماسك؟
ميشال أنفري:
لقد كتب كوندرسيه في الحقيقة كتابا يُعتبر إنجيل التقدميين، “مُخَطَّط لوحة تاريخية لتقدم العقل البشري”، يتصور فيه، في اللوحة الأخيرة، مُستقبلا يُحدث فيه علم تحسين النسل الجمهوري ثورة تغييرية. أرادت الكاثوليكية تغيير الطبيعة البشرية الموسومة بميسم الخطيئة الأصلية من خلال الإيمان؛ وأراد المذهب الجمهوري تغيير الأوضاع الاجتماعية للإنسان من أجل “تجديد” البشر.
في هذا المشروع الذي يفترض علاقة جديدة بالملكية (الخطيئة الأصلية في نظر روسو)، وعلاقة جديدة بالمعرفة من خلال التربية، تُوجد أيضا علاقة جديدة بالجسد المُحال إلى ماديته الصرفة، أي “غير حي” بالعودة إلى الاشتقاق اللغوي، ومُمَكْنَنٍ بشكل جذري – إنه الإنسان الآلة الشهير الذي تحدث عنه دو لاميتري. لقد تم إلغاء الحدود الفاصلة بين الإنسان والحيوان وقُدِّمَ العلم بوصفه أداة تحقيق هذا “الإنسان الجديد”.
تطوير النسل، التهجين، الافتتان بقنديل البحر الذي يحتوي على مبدأ الخلود، كُلها أمور كانت تشغل بال هؤلاء الفلاسفة. وكما يليق بتلميذ نجيب لفلاسفة الأنوار، مرَّ إيلون ماسك إلى التطبيق، ومن خلال شركاته نورالينك، شرع مسبقا في تركيب شرائح للخنازير والقردة ويُعلن استعداده لفعل نفس الشيء بالنسبة للبشر.